جلستُ في مجلس رمضاني اضطرت فيه للاستماع إلى أحاديث سياسية مُغرقة في التحليل، ولم أستطع الرحيل احتراماً وتقديراً للمتحدثين، ولكنني وجدت نفسي وقُد نُفيتُ «ذهنياً» من ذلك الحوار إلى أماكن بعيدة، استذكرت فيها ما قرأته منذ زمن حول مواضيع كثيرة ومتنوعة. ما أجمل الخيال، فلولاه لأصبح الإنسان حبيساً في داخل جسده حتى وإن كان حُراً.
تذكرت حينها موضوع الغلاف الذي نشرته صحيفة «التايم» في عددها الصادر بتاريخ 12 أغسطس/ آب 2010، وكان حول روائي أميركي مغمور، يقول عنه كاتب المقال بأنه ليس الأغنى، أو الأشهر، وشخصياته لا تفكّ الأسرار والأُحجيات وليست لديها قدرات خارقة، ولكن روايته الأخيرة «الحريّة» تُرشِدُنا كيف نعيش. الكاتب هو «جونثان فرانزِن» لم يسمع عنه أحد من قبل على الرغم من أنه أصدر عدة روايات قبل «الحريّة»، ثم يستطرد كاتب المقال في الحديث عن شخصية فرانزِن وعاداته، حيث يبدأ بالكتابة في السابعة صباحاً ولا ينتهي حتى نهاية اليوم، وأحياناً يكتب كل يوم دون أخذ راحة استراحة في آخر الأسبوع. وفرانزِن لا يكتب في بيته، بل استأجر مكتباً صغيراً جرّده من كل شيء إلا طاولة مهترئة وكرسي صغير، وجهاز كمبيوتر محمول أزال منه جميع الألعاب التي تأتي معه، حتى أنه ملأ الفتحة التي تُشبَك بوصلة الإنترنت بالصمغ، لكي لا تسوّل له نفسه الدخول إلى الإنترنت التي يقول عنها بأنها تشتت الكاتب الجادّ.
بعد عدة أيام، دخلت موقع أمازون لشراء بعض الكتب، وعندما نظرت إلى قائمة الكتب الأكثر مبيعاً، والتي تعد القائمة الأقوى في العالم، وجدت رواية الحريّة تحتل المرتبة السادسة، وقد صار لها في هذا الترتيب ثمانية أيام. هرَعتُ إلى عدد ا»لتايم» فوجدته قد نُشِرَ قبل ثمانية أيام بالضبط، أي أن فرانزِن قد أصبح، في نفس اليوم الذي نُشِرت فيه المقابلة، أحد أفضل روائيي العالم من حيث المبيعات بعد أن كان «مجرّد» كاتب. وأثناء كتابة هذا المقال، طالعت القائمة نفسها، فوجدت بأن رواية «الحرية» تحتل المركز الأول على قائمة أمازون لأفضل الكتب مبيعاً في العالم... نعم المركز الأول!
اعتراني نوع من الإحباط الذي يتسلل إلى قلب الأُمنيات المُحطّمة، وباغتني يأس رغم تفاؤلي الدائم. تمنيت حينها لو أنني توقفت عن الكتابة، فلِمَن أكتُب؟ وإن كتبتُ فمن يقرأ؟ والذين يقرأون فإن غالبيتهم لا يطالعون إلا ما كُتِب في السياسة فقط، ولا ينشغلون بشأن غيرها. هذه هي المعضلة التي تواجه المثقفين في العالم العربي، يُحسّ أحدهم بأنه يكتب للفراغ، للتنفيس، وأحياناً لكي يشعر بأنه على قيد الحياة... بالنسبة إليّ فإن القراءة هي الشهيق، والكتابة هي الزفير، ولكن القارِئ هو الهواء، فكيف يتنفس المرء دون هواء!
إن التقدير الذي يحظى به المثقف والمبدع في الدول المتقدمة، هو أساس ارتقاء الحضارة في تلك الدُول، فعندما نقرأ تاريخ الحضارات نجد بأن أسماء المبدعين والمفكرين هي التي تملأ صفحات الكتب، وتكاد أسماء الأشخاص تفوق أسماء المكونات المادية أو الإنجازات العسكرية لأي حضارة، وحتى عندما تُذكر هذه الإنجازات فإنها ترتبط على الدوام بأسماء مُبدعيها ومنجزيها.
إن الأمم الحيّة هي الأمم التي تبحث عن الحكمة وتَشعر بالكلمة، بل هي الأمم الشغوفة بالمعرفة إلى حد النشوة، وهي الأمم التي تستنفر شعوبها من أجل شراء كتاب. هي الأمم التي تعتبر الجَهلَ معرّة وإهانة، حتى لا تكاد تجد في قواميسها تعريفاً للجهل الذي كُشِط من سجلاتها المدنية والسبب «الوفاة»... أتساءل حينها، كيف يموت الجهل؟
يموت الجهل عندما يكفّ الناس عن التعايش معه، فيكف هو عن التأقلم معهم، ويموت عندما يُمنع، بحكم القانون، من دخول المنازل والأسواق والشركات، والعقول، على حد سواء.
يقول المحرر في مقابلته مع فرانزِن: «إنه لا يعرف شيئاً في السياسة، فهو ليس جاهلاً بها فقط، ولكن حتى ما يظن بأنه يعرفه عنها، مخالف للواقع تماماً» إلا أن روايته في هذه اللحظات، تتربع على عرش الرواية العالمية، والمفاجأة هي أنها لم تُطرَح في الأسواق بعد.
إن ما أبهرني في هذه المقابلة هو أن المحرر لم يذهب لمقابلة روائي شهير ومرموق لكي تزيّن صورته صفحات مجلته، ولكنه يمّم شَطْرَ مُبدع يؤمن بإبداعه دون الاهتمام بمكانته الاجتماعية أو علاقاته الإعلامية أو نفوذه السياسي أو اسم قبيلته، فإبداعه هو مكانته وهو نفوذه وهو قبيلته أيضاً، وهذا هو العمل الإعلامي الحقيقي، الذي يسعي لإبراز الأفضل وليس الأشهر. إذن هي منظومة متكاملة، آلة إعلامية جبّارة، بيئة تبحث عن الإبداع، كتّاب مبدعون وجادّون، قراء نهمون ومتابعون، لتتشكل بذلك «بلاد العجائب» التي يحلم بها كل مثقف.
في أواخِر القرن التاسع عشر، كان الكاتب عبدالرحمن الكواكبي، صاحب كتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» عقبة كؤود في وجه الامبراطورية العثمانية التي كانت تعيث في العالم العربي ظلماً وطغياناً، وكان كتابه ذلك إحدى المنغصات التي عكّرت مزاج الباب العالي في إسطنبول وقضّت مضجعه. وقد لاحظ أحد الجواسيس بأن الكواكبي كان يبلل إصبعه بلسانه كلما أراد أن يقلب صفحات الكتاب الذي يقرأه، فأهداه كتاباً وضع على أطراف صفحاته سماً، ولم يكد الكواكبي ينهي قراءة الكتاب حتى مات. وعندما تناهى الخبر إلى مسامع أبي الهدى الصيادي، الملقّب بـ «داهية الباب العالي» فرح وقال: «بالقراءة أتْعَبَنا، وبالقراءة قتلناه».
لقد كانت مرحلة الكواكبي وما تبعتها من سنوات حتى قُبَيْل ثورة يوليو/ تموز في مصر، فترة حالمة للمثقف العربي، فبرز إلى الساحة عمالقة الأدباء العرب الذين كان الناس يجترّون كتبهم، ويرتادون صالوناتهم الأدبية ويدعونهم لتشريف مناسباتهم الخاصة، ليجد المثقف والأديب أرضاً طيبة يبذر فيها عطاءه.
القراءة فنّ لا يتذوقه إلا المجرّبون، وإذا انبعث حب القراءة من القلب، صار الفتى أنضج، وصار الشيخ أفتى، وصارَ العالم أَرْحَب. يقول عبدالملك بن مروان: «عليكم بطلب الأدب، فإنكم إذا احتجتم إليه كان لكم مالاً».
إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"العدد 2920 - الجمعة 03 سبتمبر 2010م الموافق 24 رمضان 1431هـ
لا فقر أشد من الجهل
قال رسول الله (ص) للامام علي (ع):
يا علي : لا فقر أشد من الجهل . ولا مال أعون من العقل . ولا وحدة أوحش من العجب . ولا عقل كالتدبير . ولا ورع كالكف عن محارم الله وعما لا يليق . ولا حسب كحسن الخلق . ولا عبادة مثل التفكر.
" كُــل هـــذا في القراءة والتثقف "
فأين الناس عنها؟!
لله درك
وستلاحظ أيضا - للاسف الشديد- يا أستاذ ياسر كاتب المقالات الفريدة التي لا تجد من نوعها مايتجاوزها في جريدة واحدة، ستلاحظ الفرق الشاسع والفضائي بين الذين يردون على مقالاتك " التي لا شأن لها بهراء السياسة" وتلك المقالات السياسية الكثيرة والتي تكاد تفيض بها رؤوسنا و مطبوعاتنا و حياتنا وأحاديثنا اليومية أقصرها، تلك التي لا ترتقي بالإنسان نصف خطوة، نفس الإنسان الذي يحلم بجنيّ علاء الدين يحقق أمنياته, ويظن أنه يمشي في نفق مظلم يمتد بامتداد الحزن والقلق والظلم في هذا العالم ... !
أقرا ولو في الشهر كتاب
ويل لأمة لاتقرأ
انها السياسه
المشكله ان المواطن العربي صار لاهي عن القراءه وذهب الى السياسه والتي هي وجبه رئيسيه يوميه في حياته وصرت القراءه شي ثانوي بالنسبه له والسبب حكوماتنا التي ألهت المواطن بالسياسه !!!!
ويبقى السؤال
بالنسبة إليّ فإن القراءة هي الشهيق، والكتابة هي الزفير، ولكن القارِئ هو الهواء، فكيف يتنفس المرء دون هواء!