أعلن وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس عن مغادرة منصبه من إدارة الرئيس باراك أوباما في العام المقبل حين تبدأ القوات الأميركية بالانسحاب من أفغانستان في يوليو/ تموز 2011. وجاء تصريح غيتس لصحيفة «لوس أنجليس تايمز» ليؤكد عزم قوات الاحتلال على التراجع العسكري بغض النظر عن النتائج الميدانية التي تكون حققتها «قوات التحالف» ومدى قدرة الجيش الأفغاني على أخذ زمام المبادرة وتحمل المسئوليات في السيطرة على الفراغات الأمنية التي ستنجم عن الانسحاب.
قرار إدارة الولايات المتحدة بات واضحاً ويتركز الآن على ترتيب التراجع العسكري خلال السنوات الثلاث المقبلة في العراق أولاً وأفغانستان ثانياً. واستراتيجية التراجع لا تقل خطورة في كلفتها السياسية عن استراتيجية الهجوم التي أسس قواعدها الرئيس السابق جورج بوش الابن تحت عناوين مختلفة منها «الضربة الاستباقية» و «مكافحة الإرهاب» و «حماية الأرض الأم من الهجمات» على غرار ما حصل في 11 سبتمبر/ أيلول 2001.
العناوين التي تذرع بها بوش الابن في هجومه استندت إلى عوامل دفاعية واقتصرت على الأمن القومي ومواجهة الإرهاب الدولي، وهي لم تشتمل بداية على خطة «إسقاط الديكتاتورية» و «نشر الديمقراطية» وتعزيز «التنمية» وحماية «حقوق الإنسان» و «تمكين المرأة». فالبداية كانت «أمنية» وتركزت على تبرير الخروج من «الأرض الأم» إلى ما وراء البحار بذريعة أن الهجوم ونقل المعركة إلى ساحات بعيدة يشكل أفضل وسيلة للدفاع وحماية «الأمن القومي» من الهجمات الإرهابية.
أفكار «الديمقراطية» ومكافحة «الديكتاتورية» ونشر الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان والإصلاح والتحديث وغيرها من شعارات مخادعة جاءت لاحقاً للتغطية على الأسباب الحقيقية التي شجعت إدارة بوش (تيار المحافظين الجدد) على تأسيس خطة هجوم انتهت في محصلتها إلى فشل سياسي وإفلاس مالي.
الخزينة الأميركية في وضعها الراهن مفلسة وتعيش على الديون وشراء السندات. والنجاح السياسي الذي كانت تبتغيه واشنطن من استراتيجية الهجوم انتهى بإسقاط «طالبان» عن الحكم في كابول وإخراج حزب البعث عن التحكم بالسلطة في بغداد مقابل انتشار الفوضى وتضخم العنف وامتداده وتقويض العلاقات الأهلية وتمزيق الهويات الجامعة وتنمية عصبيات ضيقة تتحرك ضمن آليات طائفية ومذهبية وقبلية وأقوامية.
هذه النتيجة السلبية ترسم معادلة ميدانية على أرض أفغانستان والعراق سيكون لها انسياباتها الإقليمية والجوارية ما ستؤدي لاحقاً إلى إعادة تشكيل خريطة «الشرق الأوسط» بعد أن تنتهي الولايات المتحدة من الانسحاب (إعادة الانتشار، التموضع) والانتقال من استراتيجية الهجوم إلى الدفاع في الفترة المقبلة.
عملية الانتقال من مرحلة إلى أخرى لن تكون سهلة لأن أميركا يرجح أن تنسحب قبل الانتهاء من برنامجها الأمني المعلن. فالإرهاب يرجح ألا يقطع دابره قبل الخروج النهائي في 2014 من أفغانستان أو العراق في 2012. وتعرض مصالح الولايات المتحدة للمخاطر يرجح ألا ينتهي مفعوله العملاني خلال الفترة المتبقية بين الهجوم والدفاع.
المسألة إذاً لم ننته ولن تختفي تفاعلاتها وارتداداتها حين تنسحب الولايات المتحدة عسكرياً وتنتقل استراتيجياً من الهجوم إلى الدفاع. والسبب أن العناوين التي تذرعت بها إدارة بوش الابن للخروج العسكري المنفرد إلى العالم لا تزال موجودة ويرجح أن تستمر وربما تتصاعد في فترة الانتقال أو في مرحلة الانسحاب من مسرح «الشرق الأوسط».
السؤال الذي يمكن طرحه. ماذا بعد التراجع الأميركي؟ وكيف ستكون عليه المنطقة في المرحلة الانتقالية؟ وكيف سيعاد تشكيل منظومة علاقات «الشرق الأوسط» من شرق أفغانستان (باكستان) إلى غرب العراق (سورية) حين تنسحب الولايات المتحدة من ميدان المعركة؟
احتمالات كثيرة يمكن تصور حصولها في ضوء الفراغات الأمنية والفجوات السياسية التي سيحدثها الانسحاب. أفغانستان مثلاً معرضة للتقسيم أو قيام سلطات محلية مستقلة في الأقاليم القبلية. وهذا الأمر في حال قيامه سيؤدي بدوره إلى تجاذبات قد تقود إلى حروب صغيرة للسيطرة على العاصمة لكون الأطراف تطمع في الدخول إلى المركز حتى تنجح في فرض شروطها على التكوينات الأهلية الأخرى.
العراق أيضا يرجح ألا يكون وضعه أفضل من أفغانستان. وبلاد الرافدين التي تعاني الآن من صعوبة في تشكيل وزارة بسبب التجاذبات الطائفية لن يتوقع منها لاحقاً إنتاج دولة عادلة ومتوازنة وقوية في مرحلة انكشافها الإقليمي المفتوح على امتدادات أقوامية وقنوات مذهبية. وتفاقم هذا الأمر يعني عملياً انشطار العراق إلى فيدراليات مناطقية تديرها ميليشيات محلية تتغذى وتتمول من شبكة علاقات تتجاوز المظلة الوطنية.
إعادة تشكيل خريطة «الشرق الأوسط» كما هو ظاهر من صورة التقويض المرئية التي أنتجتها استراتيجية الهجوم البوشية باتت مسألة واقعية أخذت ترتسم معالمها الميدانية في المشهدين الأفغاني والعراقي. وهذا المتغير الذي انتهت إليه المنطقة، بغض النظر عن خطة مبرمجة أو فشل استراتيجي، يستدعي فعلاً الانتباه من مخاطر متأتية عنه ستنكشف تباعاً في الفترة المقبلة وربما خلال رحلة الانتقال الأميركي من الهجوم إلى الدفاع. المتغير الذي يرجح أن يتشكل في السنوات الثلاث المقبلة لن يكون بعيداً في مفاعيله وتبعاته عن الدول العربية ومحيطها الجغرافي والقاري (الآسيوي – الإفريقي) سواء على صعيد قضية فلسطين الأم ودور «إسرائيل» الإقليمي في المرحلة المقبلة أو على صعيد منظومة العلاقات الإقليمية ودور الأطراف وقوى الجوار الصاعدة في التأثير على تكوين وموازين ومعادلة وهوية «الشرق الأوسط الجديد».
إعلان غيتس عن قرار الاستقالة من وزارة الدفاع في السنة المقبلة لا يعني أن المهمة الأميركية في المنطقة (الشرق الأوسط) انتهت إلى نجاح أو فشل. فالنتائج في هذا المعنى غير مهمة لأن الأخطر: ماذا بعد؟ وكيف ستكون عليه صورة «الشرق الأوسط»؟ ومن هي الدول الإقليمية التي ستلعب دور البديل أو الوكيل بعد أن يخرج الأصيل من المسرح ويغيب عن مشهد الساحات الميدانية المحيطة بالعراق وأفغانستان؟
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2903 - الثلثاء 17 أغسطس 2010م الموافق 07 رمضان 1431هـ
عبد علي عباس البصري
الانسحاب من افغانستان والعراق لايعني تخلي الولايات المتحده عن السياده على المنطقه ، فعلاوه على التواجد الامريكي والبريطاني في الخليج وبشكل مكثف ايضا تعتبر الامارات الخليجيه انظمه صديقه للولايات المتحده ، الانسحاب من العراق وافغانستان يعني سيطره قوه اقليمه تحمل اديولوجيات وتوجهات غير متطابقه مع تلك الدول الصديقه ، على الساحل الاخضر (الهلال الخصيب) بالاضافه الى الساحل الممتد من وادي سوات في باكستان وافغانستان الى ايران ، كل شعوب هذه الدول شعوب لا ترضى بالذل والانصياع . وللحديث تكمله...