أهمية كتاب راسل عن الفلسفة أنه يعتبر الأول من نوعه بعد محاضرات هيغل التي ألقاها على تلامذته وجمعت في كتب بعد رحيله. فالكتاب أرخ للفلسفة الغربية بدءاً من حقبة اليونان وصولاً إلى أيامه، معتمداً المحطات التاريخية التي وضعها هيغل في مشروعه. الفارق الأساسي أن راسل أهمل الفلسفات الشرقية (الصين، الهند، وبلاد فارس) وبدأ من حيث انطلقت «الفلسفة الحقيقية» كما يقول هيغل في محاضراته، ولكنه لم يقفز فوق العرب (الفلسفة الإسلامية) كما فعل هيغل أو يهمل مدى تأثير تعليقاتهم وشروحاتهم للفكر الإغريقي على النخبة الأوروبية في العصر الوسيط.
كتاب راسل صدر بعد نحو 120 سنة من محاضرات هيغل، وكتبه بعد أن بلغ 73 سنة من عمره ورأى النور في نهاية الحرب العالمية الثانية ما يعطيه أهمية خاصة في توقيته وغاياته. فالمشروع التأريخي للفلسفة الغربية تخمر في ذهن راسل بعد جهود مضنية بذلها خلال فترة عمره المديد وجاء بعد صدور كتابه المهم عن «مشكلات الفلسفة» بربع قرن.
بدأ راسل مخططه من المربع اليوناني وأخذ يتدرج في قراءة الفلسفة محطة بعد أخرى ملتزماً المنهج التحقيبي التاريخي لهيغل إلى أن يصل إلى القرن الخامس عشر ليدخل في التفصيلات ذاكراً سيرة الفيلسوف وموجزاً عن محيطه السياسي وبيئته الثقافية والإضافات التي نجح في إدخالها على حقل الفلسفة.
منهجية راسل مهمة وهي بدأت متسلسلة في حلقات حتى وصلت إلى روسو. وبعد روسو أخذ يوزع الفلاسفة على اختصاصات من دون أن يلتزم مخطط التحقيب التاريخي. والسبب كما يقول إن الفلسفة كانت حتى أيام روسو موحدة في اهتماماتها ثم توزعت وتفرعت ولم يعد بالإمكان ملاحقة أعمالها وإعلامها في منظومة مشتركة.
برأي راسل أن الفلسفة المعاصرة بدأت في القرن الخامس عشر وترعرعت عناصرها الجنينية في شمال إيطاليا (فلورنسا) في عهد أسرة مديشي في توسكانا. ومن فلورنسا بدأت الخطوة التأسيسية الأولى بعد صدور كتاب «الأمير» لميكافيلي (1467 – 1527)، ثم اراسموس (1466 – 1536)، ثم بيتر توماس مور (1478 – 1535) وكتابه عن «يوتوبيا» في سنة 1518. وهكذا يواصل راسل بحثه عن تطور الفلسفة الغربية مشيراً إلى ظهور الحركة البروتستانتية (لوثر وكالفن) ونمو العلوم من كوبرنيكس (1473 – 1543) وتايسو براهي (1546- 1601) وكيبلر (1571 – 1630) وغاليلو (1564 – 1642) وغيلبرت (1540 – 1603)، وهارفي (1578 – 1657) وروبرت بويل (1627 – 1691)، ونيوتن (1642 – 1727).
فلسفة فرانسيس بيكون (1561 – 1626) تبلورت في ظل المتغيرات الإصلاحية الدينية والمتحولات العلمية والاكتشافات الفلكية والاختراعات التقنية وظهرت في فترة سابقة لنظريات نيوتن عن الجاذبية وأنواع الحركات ولكنها شكلت خطوة ثانية في سياق تطور الفلسفة الغربية التي بدأت تتوالى حلقاتها من دون انقطاع على سكة حديثة في تكوينها وعناصرها. فجاء هوبس (1588 – 1679)، ديكارت (1596 – 1650)، سبينوزا (1632 – 1677)، وليبنتز (1646 – 1716)، إلى أن ظهرت موجة الليبرالية التي انتعشت بداية في انكلترا وهولندا. يرى راسل أن سبب إشراق الليبرالية في انكلترا يعود إلى ذلك الصراع الذي نشب بين الملك والبرلمان في فترة الحرب الأهلية ما أعطى فرصة لنمو فلسفة تؤكد على التصالح (التسوية) والتحديث (التطوير). بدأت الليبرالية حين وضع جون لوك (1632 – 1704) إطارها السياسي – الفلسفي (المجتمع المدني والعقد الاجتماعي) وأخذت تتفاعل بعده متأثرة بمبادئ التسامح التي أشار إليها في أعماله. بعد لوك جاء جورج بيركلي (1685 – 1753)، هيوم (1711 – 1776).
إثر هذه الموجة من الفلاسفة يفتح راسل صفحاته على فصل جديد يبدأ من جان جاك روسو (صديق هيوم وخصمه في الرؤية الفلسفية) وما يسميه بظهور الحركة الرومانسية. مع روسو والعقد الاجتماعي (1712 – 1778) بدأت الروح الفرنسية تعيد تشكيل وظيفة الفلسفة ودورها التنويري في ضوء تداعيات الثورة وتأثيراتها على المحيط الإقليمي في نهاية القرن الثامن عشر. بدأت الفلسفة منذ روسو وانتقالها إلى ألمانيا تنشطر إلى وحدات غير متجانسة وحقول متخالفة في اختصاصاتها ومنطلقاتها. فظهر كانط (1724 – 1804) فيخته (1762 – 1814)، هيغل (1770 – 1831)، شوبنهور (1788 – 1860)، نيتشه (1844 – 1900).
يتوقف راسل عند نيتشه ليقول إن الفترة الألمانية التي امتدت من كانط إلى نيتشه خففت من تأثير الفلسفة الانكليزية باستثناء أعمال السير ويليام هاملتون وجيرمي بينثام وجيمس مل وابنه جون ستيوارت مل وتشارلز داروين وروبرت أوين.
هذا المزيج بين الأفكار السياسية والمذهب النفعي والمادية الطبيعية والاشتراكية المثالية أخذ يولد اتجاهات فلسفية غير منسجمة مع تاريخها التطوري (وحدة الأضداد) إذ بدأت تتفرع إلى اختصاصات سياسية واقتصادية واجتماعية واشتراكية وشيوعية (كارل ماركس).
يتوقف راسل لحظة ليشرح مصير «الفلسفة الغربية» في فترة صدور كتابه العام 1945 فيشير إلى أنها انقسمت سياسياً وأيديولوجيا إلى ثلاثة معسكرات كبرى: الأولى أوروبا الحديثة (الغربية) وأميركا وهي تتبع لوك وبينثام. الثانية أوروبا الشرقية وروسيا وتتبع اشتراكية ماركس. والثالثة النازية والفاشية وتتبع بسياقات مزاجية فلسفات روسو وفيخته ونيتشه (صفحة 754 – 755).
بعد هذه الوقفة السريعة لتشريح توجهات الفلسفة (السياسية) في زمانه يواصل راسل سرد قصته من خلال رواية التطورات التي دخلت على المنظومات الفلسفية في عصره. فهو الآن أصبح جزءاً من ذلك الفضاء الكوني ومتغيراته التي عايش تطوراتها العنيفة منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر إلى سبعينات القرن العشرين وحضر وقائع الحرب العالمية الأولى وتفصيلات الحرب العالمية الثانية وشاهد رمي القنبلة النووية على هيروشيما وتابع حوادث كوريا وحرب فيتنام وتشكل «الحرب الباردة» وانقسام أوروبا إلى معسكرين ودخول أميركا على خط إعادة إعمار ما دمرته الحرب في القارة (مشروع ماريشال) وتأسيس الحلف الأطلسي (الناتو) وانتقال حروب الدول الكبرى إلى العالم الثالث ونمو حركة التدويل (الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية).
كل هذه المشاهد المدمرة (الانتحار الجماعي) التي تجاوزت كل الخطابات العقلانية ودعوات التسامح الإنساني والعدالة الدولية كان لابد لها من قراءة فلسفية تعيد إنتاج أدوات الممانعة لمواجهة ذلك الفائض من القوة الذي أندفعت الدول الكبرى على إنفاق الملايين والمليارات لتغطية موازناته بذريعة الدفاع عن المصالح أو بسبب عقدة التفوق والبقاء للأصلح.
راسل في المعنى المذكور يشكل ذلك النموذج القيمي الذي أخذ على عاتقه مهمة التصدي لتلك «الأيديولوجيات» و«الأنظمة» التي لا تحترم العدالة ولا تكترث للضحايا لأنها تعتبر نفسها مشروعة وفوق القانون ولا تطالها الملاحقات والمحاكمات والعقاب. مهمة راسل النشاطوية والدعوية لم تنفصل عن رؤيته الفلسفية التي تجاوزت المنهج (آليات التفكير) لتؤكد الوظيفة وهي الدفاع عن المبادئ والقيم والمفاهيم.
على أساس هذا المنحى السلوكي واصل راسل بحثه في رصد تطور الفلسفة الغربية عشوائياً ومن دون تركيز على اتصال الحلقات في عصره فتحدث بعد وقفته الزمنية السريعة عن برغسون (1859 – 1941) ويليام جيمس (1842 – 1910) وبيرس (1839 – 1914) وبرادلي (1846 – 1924) وجون ديوي الذي ولد في العام 1859 وكان لايزال يعتبر في أيام راسل قائد الفلسفة في أميركا. وأخيراً ينتهي راسل إلى تصدير بحثه في خاتمة تتحدث عن مصير الفلسفة في عصره وتفرعها وانقسامها انطلاقاً من قواعد قديمة تأسست على الاختلاف في التعامل مع أصول المنطق وعلومه فيتحدث عن دور جورج كانتر وبعده فريج (1848 – 1925)، وكارنب (1891 – 1970) في تحديث بعض العناصر التي ترافقت مع نشوء الفلسفة وتطورها منذ أفلاطون حتى ويليام جيمس ويطلق عليها علم الحساب والرياضيات والفيزياء وغيرها من حقول اختلطت مع آراء كل فيلسوف ورؤيته الذاتية والكونية وتأثيره المرحلي على محيطه وجيله أو من يأتي بعده.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2898 - الخميس 12 أغسطس 2010م الموافق 02 رمضان 1431هـ
وليد نويهض مخلص للعروبة
الاخ وليد نويهض كاتب قدير ولكن لو قليلا يغربل بعض فلسفات الغرب فنها الجيد الذي يتوافق مع الفطرة وآخر لا علاقة له بالعقلانية أصلا , حتى أن بعض تلك الفلسفات ترى أن أي معلومة لا تكون الا من خلال التجربة وحسب فلا مجال لأي علم ميتافيزيقي لا يخضع للتجربة الحسية , فبالتالي هذا يؤدي الى عدم الايمان بالله لأنه لا يخضع لقانون التجربة والايمان به تعالى أساس كل الاديان السماوية , فأي فلسفة تؤدي نكران الرب هي باطلة قطعا , واستميحك غذرا يا وليد .
وجهة نظر
شكرا للكاتب وليد على هذه المعلومات عن الفلسفة ولكن لا نرى منه الاّ التبشير بفلسفات الغرب المنتاقضة فمثلا فلسفة كانت المثالية تناقض فلسفة ماركس المادية لدرجة أن من بعض نضريلاتهم المثالية البحتة نشأ عنها فكرة عدم وجود شيء يسمى مادة بل كل الاشياء رموز لا حقيقة موضوعية لها وإنما الذهن يخلقها ويتعقلها الى غير ذلك من الاراء الغريبة . أين فلاسفة العرب والمسلمين لماذا لا تتكلم عنهم , هل أنت من المنبهرين بالاخر على حساب أهلك .