محمود حواس - كاتب سوري، والمقال ينشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org»
الثورة المعرفية الكبرى التي نشهدها الآن أفسحت المجال لتغيير آليات التبادل والتواصل والتفاعل، والتأثير في العديد من المجالات الحياتية الكبرى في العالم. ولم تعد الوسائل والأدوات الاتصالية والتأثيرية التقليدية تملك ذلك الزخم التفاعلي، لقد دخلت اللعبة التواصلية الجديدة ذات الوقع التأثيري الكبير إلى ميدان كل صغيرة وكبيرة في حياة الإنسان المعاصر.
ولكن وبالرغم من ضعف الاستعمال التكنولوجي في العالم العربي لأسباب مادية ودينية وسياسية، إلا أن السرعة الهائلة في وسائل الاتصال تتطلب من المثقف العربي ألا يبقى في حدود الأساليب التقليدية للعملية الاتصالية، إذ مطلوب منه التفاعل والتواصل والمثابرة في استخدام التقنيات الحديثة بشكل نوعي ومتميز، والتي يجود بها العصر بين الفينة والأخرى (مثل الكمبيوتر والموبايل والإعلام الفضائي وبرامجه التفاعلية... والإنترنيت بجميع برامجها التفاعلية الماسنجر والبريد الإلكتروني والسكايبي والتويتر والفيسبوك وغرف الدردشة والحاسوب والهاتف النقال... إلخ)، ويستخدمها في تعاطيه اليومي المستمر مع حركة المعرفة حول «الذات» و«العصر والحضارة المعاصرة»، حيث تصبح سمة من أهم سماته وجزءاً أساسياً من صلب حياته، ولعل هذا الإتقان وهذا النوع من الاستخدام هو بالتحديد ما يمكن المثقف العربي «التفاعلي» من وعي «الذات» و«المحيط» و«العصر» و«الآخر» وعياً موضوعياً سليماً، كما يمكنه من إدراك «البنية العميقة التي تحكم سلوك «الآخر» وتفكيره وإبداعه وطريقة حياته من حيث نقاط الضعف ونقاط القوة وجوانب التأثر والتأثير، وآليات التعاطي والتواصل المناسب. فضلاً عن أن «كتابة الكاتب الإلكترونية التفاعلية من شأنها أن ترسّخ علاقة جديدة بين الكاتب والقارئ، بين المؤلّف والناقد. وهذه إحدى المميزات الأساسية لهذه الكتابة، وهي أنها غالباً ما تدخل في مسلسل التعليق والتعليق المضادّ بمجرد أن «تلعقها» الشبكة.
هناك «سيولة نقدية» مخالفة لما كان معهوداً في الكتابة الورقية. ذلك أنّ هذه الأخيرة، نظراً لما تعرفه من بطء النشر والانتشار تحتاج إلى كبير رويّة كي تُتلقّى وتُهضم حتى يتمّ انتقادها.
أمّا الكتابة الإلكترونية فهي تكاد تظهر مع حواشيها دفعة واحدة، بل غالباً ما يغدو حجم التعليقات والحواشي أضخم بكثير من النص ذاته. وهي تعليقات تتمتّع بقدر كبير من «الحرية»، وخصوصاً وأنّها معفيّة من الرقابات المتنوّعة التي يفترضها النشر الورقيّ عادة.
لعلّ ذلك هو ما يبرّر «غزارة» الإنتاج التي أخذنا نلحظها عند الكتّاب الذين ينشرون على الشبكة. فربّما كانت سهولة التلقّي وسرعة «الاستهلاك» والتعليق هي التي تجرّ الكاتب إلى أن يواصل حواره مع قرائه بمجرد أن يتلقّى ردودهم.
لنقل بأنّ التفاعل بين الكاتب والناقد يغدو بفضل النشر الإلكتروني أكثر اتساعاً، وأكبر سرعة، وربما أشد إرغاماً (عبدالسلام بنعبد العالي)، ويمكننا القول بأن هذا النمط من المثقفين هو الأكثر قدرة على تخليص الثقافة العربية من مشكلاتها الراهنة، والنهوض بأعباء المشروع الثقافي والحضاري العربي نهوضاً حقيقياً عملياً بعيداً عن الكلام الفارغ والمهاترات التي تسيء للثقافة العربية ومشروعها النهضوي المنشود، لاسيما وأن الأزمات السياسية العربية مستفحلة الآن وهنالك حاجة للمثقف التنويري الحداثي لكي يقوم بدوره التشخيصي النقدي، وأن يظهر كقوة إصلاحية قادرة على مخاطبة الجماهير بشكل مباشر ومتماس مع همومه الفردية والمجتمعية والدولتية، وبالتالي السياسية الكبرى.
ويكون هذا المثقف التفاعلي قادراً على نقد ومراجعة الحقبة الماضية بما تتضمنه من هزائم القيادات العربية المتلاحقة على الصعيد الخارجي من حرب يونيو/ حزيران – النكسة - وحتى احتلال العراق، وما يتلاحق مع هذا الشريط الزمني حالياً من نكسات وضربات قوية في الدول العربية بسبب هشاشة بنية الدولة العربية الراهنة القائمة. إما على زعامة الفرد الأوحد أو على نمط حزبي تقليدي جامد بعيداً عن التأثر بكل موجات الحداثة والتقانة، إن المثقف المأمول في القادم من الأيام هو المثقف الإلكتروني التفاعلي المعبأ سياسياً والقادر على التأثير في أوسع قطاع جماهيري، وبخاصة الشباب الذي يتواكب مع المبتكرات التكنولوجية التفاعلية والذي يستشف ويلحظ متغيرات العالم وينظر إلى واقعه المؤلم، ويكشف لا بل يصدم بالمفارقة الحضارية الكبرى بين بلده وبلدان العالم المتطورة، فتتكون لديه طاقة نفسية هائلة مستعدة لتلقي الطاقة التوعوية من المثقف بشكل سلس وبإيجابية كبرى، وعندما يقوم المثقف بدوره التفاعلي الناجح يتعانق فكرياً مع الشاب الطموح المصدوم من سوء الأحوال العامة في بلده والفجوة المعرفية الكبرى بين بلده وبلدان العالم المتقدمة الأخرى، وعندها تتحقق لحظة التواتر التأثيري الكبير.
إن الإرادة الثقافية الواعية للمثقف الجاد الذي يستطيع الخروج من شراء الضمائر الضعيفة من قبل السلطات الاستبدادية، أو الركون للخمول، أو الكسل الفكري، أو اليأس من التغيير تحت وقع سياط الشمولية والاستبدادية، أو مؤاثرة الهدوء والحياة ببطء موتي خافت ومهين، هي القادرة على تشكيل وعي حداثي تنويري لدى جيل الشباب من شأنه التأسيس لمقدمات نهضة ثقافية وفكرية كبرى.
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 2898 - الخميس 12 أغسطس 2010م الموافق 02 رمضان 1431هـ