هذه هي الحلقة الأخيرة من سلسلة «الكراهيات» التي امتدّت على تسعة شهور متصلة. وفي معظم حلقات هذه السلسلة كانت الكراهية تتبدى وكأنها غريزة أساسية في الطبيعة البشرية، وكأنه لا سبيل لاقتلاع جذور الكراهية من نفوس البشر. وهذا ما خلص إليه سيغموند فرويد حين تحدّث عن غريزة العدوانية، إلا أن هذا الأخير اكتشف، أيضاً، أن العدوانية (الكراهية) تقوم بوظيفة اجتماعية وهي تعزيز التلاحم داخل الجماعة أو الأمة. ومن حيث المبدأ فإنه لا يمكن تصور أمة تكون حدودها هي كامل حدود الإنسانية جمعاء؛ لأن الكراهية ستكون، عندئذٍ، مكفوفة وبلا موضوع تستهدفه، مما يعني أنها سترتد على الذات لتصبح هي هدف الكراهية (كراهية الذات). افترض فرويد أن للكراهية طاقة في نفوسنا تماماً كما افترض أن الليبيدو هو الطاقة التي تمدّ غريزتنا الجنسية بالحيوية، وأن هذه الطاقة لابد من تفريغها خارج الذات، خارج الجماعة من أجل حفظ الذات وحفظ الجماعة. فالحب والتواد والتراحم الذي يؤسس أواصر الروابط بين جماعة ما لا يمكن ضمان استمراره إلا باختراع آخرين يتلقون الضربات، ضربات العدوانية والكراهية، وإلا ارتدت الضربات إلى داخل الجماعة.
لم أكن معنيّا، طوال هذه السلسلة الطويلة من مقالات الكراهية، بتقصي علاقة الكراهية بالذاكرة وبتلاحم الجماعة، بل كنت أسعى إلى استقصاء سيرة الكراهيات المنفلتة في التاريخ وفي حياة البشر، وإلى تأمل ما يجري اليوم لهذا النوع من النوازع الغريزية العنيدة وما ينتظرها من مصير قلق في ظل تحولات مهمة ابتدأت بنشوء الدولة وقوانينها التي تجرّم خطاب الكراهية والإهانة والتحقير وتشويه السمعة والقذف والسبّ، وبصعود المجال العام في العصر الحديث، وما ترافق معه من «تسهيل لامتناهٍ لوسائل المواصلات» والاتصالات. الأمر الذي كان ينبغي أن يهدّد عزلة البشر التاريخية بحيث يضعهم معاً وجهاً لوجه، ويحكم عليهم بضرورة التواصل والانفتاح، وبهذا تختفي الكراهيات والنوازع العدوانية من حياة البشر، إلا أن الكراهيات أثبتت أنها تنطوي على مكر استثنائي تجلّى لا في قدرتها الخارقة على التحايل على كل هذه التحوّلات الجذرية في العصر الحديث فحسب، بل في تطويع كل هذه التحولات لتكون في خدمتها وتعمل لصالحها. وقد رأينا، في المقالة السابقة، كيف تمكنت الكراهيات من تجديد وجودها عبر التوسّل بالمجال العام المجزّأ وبتكنولوجيا الاتصال والإعلام. وما تعمله الكراهيات في المجال العام وتكنولوجيا الاتصال والإعلام تعمله، كذلك، في مجال الدولة. إلا أن للدولة شأناً خاصاً؛ لأن الدولة هي الميدان الأساسي للصراع على السلطة، وفي هذا النوع من الميادين يمكن توظيف الكراهيات واستخدامها كسلاح أو كتكتيك من تكتيكات الصراع على السلطة، وإلاّ كيف نفسّر تعامل الدولة الانتهازي والمصلحي مع الكراهيات؟ ولماذا نرى الفاعلين السياسيين الممسكين بالسلطة والطامحين إلى الإمساك بها ينخرطون، سراً أو علانيةً، في سياسات التحريض على الكراهية الجماعية وقت ما يجدون في ذلك مصلحة سياسية لهم؟ ألا تقرّ هذه الدولة تلك الكراهيات وتشجع عليها حين تتغافل عن تجّارها وصنّاعها؟ ثم من ذا الذي يجرؤ اليوم على المجاهرة علناً، ودون لفّ أو دوران، بكراهية منفلتة من ذلك النوع الصادم الذي يذكّر بتلك الكراهيات الحادة التي انتعشت في التاريخ؟ أليست الكراهيات التي نراها اليوم كراهيات مصطنعة ومزيفة ومختلقة لمآرب سياسية، وفي الغالب هي مآرب انتخابية؟ أليس لافتاً حقاً أن أكثر المحرّضين على الكراهية اليوم هم من المترشّحين لخوض انتخابات الرئاسة أو المجالس التشريعية؟ وأنا هنا لا أتحدث عن حالات عربية متفرقة في البحرين والكويت والعراق وغيرها، فهذه حالات جلية حيث الكراهية المصطنعة مجرد حيلة انتخابية لدى البعض لكسب المزيد من أصوات هذه الطائفة أو تلك القومية، ولكن لنلق نظرة سريعة على أصحاب الكراهيات حول العالم، ألا نجد أن معظم الكراهيات صادرة عن مرشحين أو نوّاب يمينيين أو عنصريين أو طائفيين لم يبق أمامهم من أمل للفوز بالرئاسة أو بالمقعد النيابي سوى إشهار سلاح الكراهية ضد الآخرين. والغريب أنه سلاح فعّال وقلما يخطئ هدفه.
الكراهية هنا ليست وسيلة لتلاحم الجماعة والأمة كما كتب فرويد في العام 1930 (العام الذي صدر فيه كتابه «الحضارة وإحباطاتها»)، بل هي وسيلة فعالة ومربحة لكسب المزيد من المصالح السياسية والانتخابية. لقد قدّم اليهود، بحسب فرويد، خدمة ثقافية كبرى ضمنت التلاحم للشعوب والأمم التي بنت تماسكها الداخلي من خلال تصريف طاقة الكراهية باتجاههم، وأوروبا مثال جلي على ذلك. لم يعش فرويد ليرى الهولوكوست؛ لأنه توفي في العام الذي اندلعت فيه الحرب العالمية الثانية، ولو عاش لعرف أن اليهود بعد الهولوكوست لم يعودوا يقدمون هذه الخدمة الكبيرة لأوروبا، فقد حلّت كراهية المسلمين والأجانب محل معاداة السامية، وحلّت المكاسب السياسية محل حاجات الأمم الثقافية للتلاحم والتماسك.
هذا تحول مهم وخطير؛ لأنه يجعل مشاعر البشر وانفعالاتهم (الكراهية هنا) عرضة للتلاعب السياسي، كما أنه يضع هذه المشاعر في قلب لعبة الصراع على السلطة. وهذا صراع لا يرحم ولا يهدأ، والمنخرطون فيه لا يتورعون عن استخدام كل الأسلحة المتاحة من أجل كسب هذا الصراع حتى لو اضطرهم ذلك إلى إثارة الكراهيات داخل مجتمعاتهم. وهؤلاء لا يتفكّرون في خطورة هذه الإثارة ولا في انعكاساتها، ولا في أن هذه الكراهيات المنفلتة – سواء كانت حقيقية أو مصطنعة - يمكن أن تتحوّل، في أية لحظة، من كراهيات مربحة إلى كراهيات قاتلة ومخيفة. فهل ينتظر هؤلاء أن تحلّ كارثة بمجتمعاتهم حتى يستفيقوا من غيبوبتهم القاتلة، وحتى تعود سياساتهم الهوجاء إلى رشدها؟!
لا يمكن لأي نقاش حول خطاب الكراهية أن يتجنب التعرّض لمسألة حرية التعبير، والتي هي واحدة من الحريات الأساسية في أية ديمقراطية. وهذا نقاش تعرّضت له سابقاً، إلا أن ما أودّ إثارته هنا هو تلك المفارقة التي يقترن فيها انتشار الديمقراطية في مجتمع ما بتصاعد مظاهر الكراهية وخطاباتها. وهناك الكثير من التقارير التي رصدت صعود اليمين المتطرف وتنامي مظاهر كراهية الأجانب في الدول التي تمتلك تجربة عريقة في الديمقراطية في كلٍّ من أوروبا وأميركا. وفي العام 1991 أشار تقرير صادر عن مجلس وزراء الاتحاد الأوروبي إلى أن الكراهية و»العنصرية استشرت مع انتشار الديمقراطية في العالم ما بعد الشيوعي». وهذه مفارقة يمكن رصدها في انتشار مظاهر الكراهية الطائفية وخطاباتها بعد التحول الديمقراطي في البحرين منذ انتخابات العام 2002، كما يمكن رصدها في العراق الجديد بعد الإطاحة بنظام صدام حسين في العام 2003.
هل هذه ظاهرة طبيعية؟ وهل يمكن تفسيرها من خلال القول بأن الديمقراطية تسمح بحرية التعبير بما في ذلك التعبير عن القضايا والمشاعر المزعجة والجارحة؟ وهل يمكن القول بأن هذا نوع من التعبير لم يكن متداولاً في السابق لا بسبب انعدام هذه المشاعر والقضايا، بل لانعدام الديمقراطية التي تسمح بحرية التعبير عن ذلك؟ هل يمكن الأخذ بهذا التفسير؟ أم إن هذه المفارقة تكشف عن عَرَض من أعراض أزمة عامة ومتجذرة وتمسّ جوهر فكرة الديمقراطية في العصر الحديث؟ لا أريد أن أطيل النقاش في هذه المسألة، لكن الثابت أن المجتمع السياسي في العصر الحديث معنيّ، بدرجة كبيرة، بالمظاهر الشكلية والإجرائية للديمقراطية والمتمثّلة في وجود الانتخابات، والتمثيل السياسي، وتداول السلطة وغيرها، وذلك بمعزل عن جوهر فكرة الديمقراطية، هذا الجوهر الذي يقول بأن الديمقراطية ينبغي أن تقوم على ضمان احترام كرامة الإنسان والاعتراف بأن البشر غايات جديرة بالاحترام بحدّ ذاتها لا مجرد وسائل يجري التلاعب بها واستخدامها في لعبة الصراع على السلطة. وهذا يعني أنه ليس من الديمقراطية في شيء أن يجري التعامل مع البشر على أنهم مجرد وسائل لتحقيق مآرب سياسية وانتخابية، أو على أنهم مجرد موضوعات يمكن أن تُستهدف بالكراهية والإهانة والتحقير وسلب الكرامة والاحترام.
لقد فتحت التحولات الديمقراطية، على اختلاف درجات قوتها وصدقها في هذا المجتمع أو ذاك، الباب أمام الانتخابات والتمثيل السياسي وممارسة بعض الحريات المدنية والسياسية، وحتى لحالات خجولة من تداول السلطة في بعض الأحيان. وهذا تحول ينبغي أن يتقدم إلى الأمام، إلا أن كل هذا قد يكون عديم الجدوى، بل إنه قد يأتي بنتائج سلبية وخطيرة، وذلك إذا ما جرى بمعزل عن جوهر فكرة الديمقراطية وهي: الاعتراف بكرامة البشر واحترام إنسانيتهم وحقوقهم بما فيها حقهم في الاحترام، وحقهم في ألاّ يهانوا وألا يُستهدفوا بالكراهيات المقيتة والمهينة والجارحة. يمكن لإجراءات الديمقراطية السابقة أن تسمح للفاعلين السياسيين بالانخراط في لعبة التنافس السياسي، إلا أنها، وحدها، لا يمكنها أن تضمن سلمية هذا التنافس وإيجابيته وعدم تحوّله، في أية لحظة، إلى صراع سياسي لا يعرف أحد إلى أين يمكن أن يصل مداه ودرجة خطورته. ومن هنا تأتي أهمية التذكير بجوهر فكرة الديمقراطية، وهو جوهر أخلاقي بالدرجة الأولى، ويتمثّل في ما يسميه يورغن هابرماس بـ «أخلاقيات المناقشة» والمجادلة التي ينبغي أن تؤطر الفعل التواصلي (والديمقراطية فعل تواصلي وحواري أساساً)، ويتمثّل، كذلك، في ما يسميه تشارلز تايلور بـ «سياسات الاعتراف» بالآخر وبكرامته.
ينبغي أن يفتح التحول الديمقراطي في أي مجتمع النقاش حول مظاهر الديمقراطية وإجراءاتها، إلا أن هذا النقاش قد يكون عديم الأهمية، وأحياناً خطراً إذا لم يترافق معه نقاش آخر حول جوهر فكرة الديمقراطية، وحول قيمة الكرامة الإنسانية، وحول أخلاق الاحترام وأخلاق المسئولية تجاه الآخرين وضرورة مراعاتهم والالتفات إليهم والاهتمام بهم وبخاصة أولئك الآخرين الضعفاء والعاجزين وأبناء الأقليات الضعيفة والمهمّشة الذين عادة ما يكونون هدفاً سهلاً لتلك الكراهيات المنفلتة. هذا نقاش أخلاقي حول الديمقراطية، إلا أنه نقاش مهم ولا غنى عنه، ولهذا ينبغي أن يُدفع به إلى الأمام.
هذه هي المقالة الأخيرة في هذه السلسلة الطويلة من مقالات الكراهية؛ لتنقطع بعدها هذه المقالة الأسبوعية مدة من الزمن، على أمل العودة من جديد في أقرب فرصة ممكنة.
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 2895 - الإثنين 09 أغسطس 2010م الموافق 28 شعبان 1431هـ
مدرس ثانوي
حي الله أختي الغاليه سترة نور العين ، الله يسلمك و يسلم غاليك و يحفظك من كل شر ، مبروك عليك الشهر الفضيل والله يعودك سالمة غانمة و تحيي الشهر بالصيام و القيام كل سنة و أنت في صحة و عافيه و خير .
تحياتي لكِ .
شكرا للكاتب وجريدة الوسط
أخي مدرس ثانوي : الف الحمد لله على السلامه ومبارك عليك وعلى الأمة الأسلامية الشهر الفضيل وإعادة الله علينا جميعا
مدرس ثانوي
ختامها مسك ، كعادتك يا دكتور متميز ، ننتظر جديدك ولا تطل الغيبه .
موفق بإذن الله تعالى .
هناك مرادف للديمقراطية
عندما دخلت البحرين على موجة الديمقراطية شوهت صورتها وأصبحت تعني شيء آخر ومعنى آخر وربما أنسب لما يحصل عندنا هو ديمخراطية
كم أنت كبير
كم انت كبير بذاتك وعند الناس وكبير في كتاباتك اتمنى لك كل الموفقية يا دكتور نادر
حسين علي
ختامها مسك ونتشوق للقادم
ننتظر عودتك
كل عام وأنت بخير د. نادر ورمضان مبارك عليك وننتظر عودة كتاباتك على أحر من الجمر
متابع
أنا أعلن أمام الملأ أني أتوقف عن القراءة لحين عودة مقالاتك الرصينة والتي احس أنها تحترمني كقارئ. شكرا لك يا دكتور من صميم القلب
شكرا على آخر مقال كراهيات
لأن تعبنا من الكراهيات وشكرا
الى متى
ليس هناك الا الكراهية وليس هناك ديمقراطية فالتجنيس السياسي والتميز والطائفية التي ولدت الكراهية خلقت وضعاً خطيراً ومشاعر كراهية للواقع المعاش بالكامل ورفض لكل شيء بل أن مفهوم الوطن قد تغير فلم يعد ذات الوطن بل أصبح ملفي ومستقر وجنة للهنود والباكستانيين والمصرين واليمنيين وغيرهم وجحيم للمواطنين
النور لا يقضي على الظلام بل يبدده.
الحب لا يقضي على الكره، بل إن الأخير يكون موجود بدرجة معينة تحفظ التوازن بينهما. فكل منهما يعرف الأخر و لا بد من وجود الاثنين. وهنا تكمن المسألة كيف نجعل الحب أكثر من الكراهية بين الناس. الحب – محمود ، اما الكره – فالإنسان السوي يرى ويلمس انه مذموم ليس لانه عكس الحب، بل للآثار التدميرية التي تنتج عنه. للأسف ان القيمتين لا تباعان في السوق، بل تنمى من خلال تنمية أمور أخرى، وهذا يعطيها أي المسألة عدت ابعاد للحل، وهذا يتطلب دراسة اخرى.
سؤال
هل نجد هذة المقالات في كتاب في المعرض القادم؟؟؟؟؟؟؟؟