العدد 2895 - الإثنين 09 أغسطس 2010م الموافق 28 شعبان 1431هـ

لماذا لا نملك الولاء لبلداننا؟

عبيدلي العبيدلي Ubaydli.Alubaydli [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

من تسمح له ظروفه بقضاء فترة إجازة الصيف خارج البلاد، يلتقي في مدن تلك البلدان بالمئات من الأشقاء العرب، والغالبية منهم من أبناء مجلس التعاون الخليجي، ممن يجوبون شوارع المدن، ويتجولون في أسواقها شأنهم في ذلك شأن الآخرين من السواح الأجانب فيها.

سنحت لي الفرصة هذا العام بزيارة عاصمة مملكة تايلند (بانكوك)، وشد انتباهي فيها كثيراً ذلك السلوك العربي، وفي القلب منه الخليجي هناك.

وجدت الخليجيين، رجالاً ونساءً، صبيانا وصبايا، من متوسطي الحال أو المترفين، سليلي العائلات الغنية العريقة، وأبناء أولئك من محدثي النعمة، جميع هؤلاء دون أي استثناء يمارسون سلوكاً يختلف عن ذلك الذي نشهده في عواصمنا.

رأيت الخليجيين في بانكوك، الذين يأنفون من استخدام سيارات الأجرة في بلدانهم، بما فيها تلك الفارهة، يستقلون في تنقلاتهم هنا سيارات الأجرة، بل تجدهم يتراصّون في قطارات بانكوك السريعة سوية بالآخرين من السواح والمواطنين، وقبل ذلك يقفون بهدوء وأنفس راضية في الطوابير المصطفة أمام آلات شراء التذاكر الآلية، دون أي تأفف.

رأيتهم أيضاً يتجولون في الشوارع، وهم يحترمون قوانينها، فيبحثون عن الأماكن المخصصة للمشاة لقطع الشوارع، ويقفون بصبر، انتظاراً لأن تشعل المصابيح أشاراتها الضوئية التي تسمح لهم بالعبور.

وجدت الخليجيين يعطون، زوجاتهم، وعن طيب خاطر، الأولوية في الدخول عبر بوابات المطاعم التي يؤمّونها، أو المسارح التي يحرصون على حضور حفلاتها أو برامج العروض المختلفة التي تقدمها.

أكثر من ذلك، رأيت الخليجيين، وبدلاً من إلقاء المناديل الورقية بعد استخدامها، يفتشون عن صناديق القمامة كي لا تتسخ شوارع بانكوك المكتظة بالسكان والمركبات من سيارات وذات الثلاث عجلات.

أكثر من ذلك، وجدت نسبة لا بأس بها منهم تتوجه نحو مستشفيات بانكوك، بحثاً عن الشفاء من مرض فشلت في وضع حد له المستشفيات الفارهة من فئة الخمس نجوم، العامة منها والخاصة، المنتشرة في العديد من العواصم الخليجية.

وفوق هذا وذاك، كانوا يتبادلون الحديث الهادئ فيما بينهم، والذي يكاد أن يقترب من الهمس الخافت، بدلاً من الأصوات العالية التي تسيطر على معظم النقاشات التي تدور بيننا، عندما نكون في بلداننا، وخاصة عندما يكون موضع النقاش ذا أبعاد سياسية.

علامة استفهام كبيرة، برزت أمامي رافعة معقوفتها، ورافضة، في تحد سافر، أن تتزحزح، ملحة عليّ بالسؤال: لماذا يكون سلوك الخليجيين هنا مغايراً تماماً لما نراهم عليه في بلدانهم، حيث آخر ما يكترثون له هو الحفاظ على نظافة البلاد، وحيث يصر كل منهم على امتلاك سيارته، أو بالأحرى سياراته الخاصة به، ويتردد في التوجه إلى المستشفيات المحلية، ولا يأبه في توسيخ شوارع مدنه وممتلكاته العامة؟

بداية حاولت الاستعانة بأدوات التحليل النفسي، فافترضت أن هذا يعود إلى عقدة الشعور بالنقص تجاه الآخر. لكن هذا المدخل لم يصمد كثيراً، لأن أولئك العرب الخليجيين الذين راقبت سلوكهم لم يكونوا في إحدى عواصم البلدان الغربية التي استعمرتنا، وزرعت في نفوسنا ذلك الشعور بالدونية تجاه الأمم الأوروبية. بل إن بلداً مثل تايلند، ربما يثير، على العكس من ذلك، الشعور بالفوقية.

ولم أشأ أن أبتعد عن الحقل النفسي، فوجدت نفسي تعود بي لتفسير ذلك السلوك، بالرغبة في التقليد، وتحاشي المسلك الشاذ، لكني وصلت، مرة أخرى إلى ما هو عكس ذلك، فلم يكن جميع سكان تايلند على تلك الدرجة من الانضباط التي ترغم الغريب على التقليد، وتحاشي السلوك الناشز. فقد كان هناك من التايلنديين، وإن كانوا قلة، ممن لم يكن يتردد في «البصق» علناً وفي الشوارع، دون أي اكتراث.

بعدها حاولت الاستعانة بأدوات التفسير الحضارية، ومرة أخرى أول ما يتبادر لذهن تفسير من يريد أن يفهم هذه الظاهرة الخليجية، هو إصابة الخليجيين بأحد أشكال أمراض الانفصام في الشخصية، ما يدفعهم إلى هذا السلوك المتناقض، في داخل بلدانهم وخارجها. لكن مثل هذا التفسير يتهاوى أمام الكم الهائل من أولئك السواح الخليجيين، وبالتالي، فمن المحال إصابة هذه النسبة العالية من هؤلاء بمثل هذا المرض الضيق الانتشار، وخاصة في دول العالم الثالث التي ننتمي إلى منظومتها.

إجابات كثيرة حاولت أن أنهي بها رحلة الـ «لماذا» هذه التي ظلت تلح عليّ طيلة الأيام العشرة التي قضيتها هناك، وفشلت معها محاولات الطرد أو الإهمال، حتى جاء ما فيه نوع من الفرج، في شكل إجابة تحاول تفسير كل أنماط السلوك العربي تلك.

أخيراً وجدت ضالتي التي فسرت بها عدم ولاء أبناء الخليج لبلدانهم، إنه النظام السياسي الذي يسيّر أمور البلاد في منطقة دول مجلس التعاون الخليجي، فالمواطن هنا يخيم على تفكيره كابوس يشعره بعدم الانتماء لهذا النظام السياسي، الذي لاتزال كلمته محدودة، إن لم تكن مضمحلة، في صياغته، وبالتالي فهو، أي المواطن، لا يوفر فرصة يغتنمها، بغض النظر عن صحة استخدامها من خطئه، إلا و «يستفيد منها» للتعبير عن عدم الولاء هذا. ولا يوفر وسيلة إلا ويستخدمها للتعبير عن السخط الذي يجتاح جوانحه. نجد هذا الشعور بعدم الانتماء، هو الذي يدفعه أحياناً إلى العبث، دونما أي مبرر بالممتلكات العامة، ويرغمه، إلى إضفاء الكثير من الأبعاد السياسية التي تغطي ذلك الحنق العفوي، دون أن تحوله إلى سلوك سياسي متزن، يحمل أهدافاً مرحلية محددة.

هذا اللا إنتماء العفوي، تحول على مدى عصور طويلة إلى ظواهر سلوكية غير مقبولة يلجأ إليها المواطن الخليجي، وبشكل غريزي للتعبير عن نوازع عدم الرضا التي تغلي في داخله، فيفجرها داخل بلاده، ويخفيها عندما يغادرها سائحاً في بلدان العالم الأخرى. ولربما آن الأوان كي يضع الطرفان، المواطن والدولة، «عدم الولاء» هذا على المشرحة كي يجدا سوية الحلول الصحيحة التي تحد من استمرار تفشيه، ناهيك عن اتساع دائرة انتشاره.

إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"

العدد 2895 - الإثنين 09 أغسطس 2010م الموافق 28 شعبان 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 14 | 8:33 ص

      والله كلام رائع من رجل رائع وكلام شجاع قل اليوم من يقوله ...

      ...الحقيقة جرأة الشيخ نادرة جدا ولم يسبقه بها احد... رجل لا تأخذة في الله لومة لائم
      .....كلمة الحق ما تجامل احد
      ...عاشق الندى...

    • زائر 13 | 8:29 ص

      الفرق الضاله أخطر وطأه على الأوطان

      تكوين الفرق الضاله وخطرهم على السيادة العامة للدولة وأخذت تتشبع وتتكاثر وتنمو وكل حزب بم لديهم فرحون ...والله كلام رائع من رجل رائع وكلام شجاع قل اليوم من يقوله ...
      مع تحيات Nada Ahmad

    • زائر 12 | 7:36 ص

      نصف الحقيقة

      تحليل ممتاز أظنك لم ترد أن تسيء له بذكر الجانب الآخر من صورة الخليجي والعربي في الخارج لأنه توجد صورة اخرى مغايرة وصاخبة ولا يوجد بها اي انضباط
      ربما الشعور بالهدوء والحرية من ضغوط العمل والطقس والمجتمع يجعلنا هادئين في الخارج لكن نفس هذه الراحة وهذا الشعور يجعلنا نكون صاخبين وفوضويين ولا نعير اي اهتمام للقوانين خصوصا اذا شعرنا بالتعالي في بلاد مثل تايلند
      الوجه الآخر مقزز وغير متزن ولولا مقالك النمطي لكتبت بلا شك عن الوجه الآخر للخليجي وللعربي خارج بلاده.

    • زائر 11 | 4:26 ص

      اختلف معاك

      لا اظن ان الامر له علاقة بالولاء للوطن فكل من تحدثت عنهم من بحرينين وخليجيين يحبون اوطانهم ويعشقونها ولكن الامر له علاقة بالجو السائد (الثقافة السائدة )في البلدان التي يزورونها فانك بلا شك تستحي ان ترمي القمامة في شارع تجد كل الناس يحافظون علي نظافتها وينظرون لك باشمئزاز ان فعلت ذلك ، نحن بحاجة إلى ثقافة تسود المجتمع وتغير قناعاته وبقوانين تدعم ذلك والمسالة ليست صعبة ، ولو زرت عمان لن تجد من يستخدم مزمار السيارة لان القانون يمنع والشعب مقتنع ، مشكلتنا انا حكوماتنا تصرف في امور تافهة

    • زائر 10 | 3:48 ص

      وحدهم

      وحدهم من لا يفعل سوى ذالك في بلدانهم هم قله قليله من من يريدون تشويه صورت بلدانهم ولو بأتفه الاساليب اليوميه ويا كثرهم في البحرين اللتي تشكو حالها منهم

    • زائر 9 | 2:14 ص

      مشكور يالعبيدلي

      صح السانك يالعبيدي
      مقاااااااااال رااااااااااااائع وغاية في الجمال وشكرا شكرا لروحك الي كله ذوق
      حياك الله
      واعلم رغم الهم والظلم اعلم يا أخي أن مهما يكن يظل للأرض مكان في القلب وهذي بلدنا ولو ضاقت بنا وظلمتنا ما لينا غيرها
      ولو ويش يصير ما بيع الديرة فنحن ثوابت وأصل فيها
      وغيرنا ولوطال الزمن أكيد منجلعين رغم عنهم
      وكل من سعى لرزهم بديرتي يوم القيامة نتقابل
      وعن حقي والله ما بتنازل

    • زائر 7 | 2:02 ص

      ستراوي

      السبب هو هذا المثل
      ياغريب كن اديب

    • زائر 6 | 1:49 ص

      الصالحي

      الاخ الكاتب
      معظم البحرينيين علي درجة كبيره من احترام القوانيين في البحرين وخارجها واذا كانت فئه تعبر عن سخطها ضد التمييز والطائفيه في البحرين هذا لا يعني اننا لا نقف في الطوابير او نبصق في الشوارع او لا نضع مخلفات القمامه في مكانها الصحيح لكن انا اعطيك وعد بعد كم سنه ستصبح سمعه البحريني خارج البلد من اسوا الي اسوا وهو بسبب كل من هب ودب معاه جواز بحريني ستكو سمعتنا في الحضيض بعد ان كانت أخلاق البحريني من احسن الخلق ليس في الخليج فحسب بل في الوطن العربي ولكن الان في تراجع بسبس التجنيس العشوائي.

    • زائر 5 | 1:46 ص

      مقال جميل جدا

      مقال جميل جدا ... والكل يدري بمايجري ... "فالمواطن هنا يخيم على تفكيره كابوس يشعره بعدم الانتماء لهذا النظام السياسي" ... الأنظمة القمعية والفاشلة هي من يجب أن يبحث عن الانتماء لهذه الشعوب فعقدة النقص كانت ولاتزال تلازم هذه الأنظمة

    • زائر 4 | 1:42 ص

      زائر رقم ن

      إنعدام الولاء بشقيه راجع إلى إنعدام ولاء الساسة لبلدانهم !
      الشق الأول إنعدام الولاء للنظام السياسي بسبب ممارساته الخاطئة والظالمة ، الشق الثاني هو إنعدام الولاء للوطن عندما ترضى و تركن إلى الخطأ و الظلم الذي يرتكبه النظام السياسي و تبرره !

    • زائر 3 | 1:22 ص

      الى متى

      التجنيس السياسي والتميز والطائفية التي ولدت الكراهية خلقت وضعاً خطيراً ومشاعر كراهية للواقع المعاش بالكامل ورفض لكل شيء بل أن مفهوم الوطن قد تغير فلم يعد ذات الوطن بل أصبح ملفي ومستقر وجنة للهنود والباكستانيين والمصرين واليمنيين وغيرهم وجحيم للمواطنين

    • زائر 2 | 12:58 ص

      تكافؤ الفرص

      الاخ العبيدلي، شكرا على الموضوع. انا درست البكالوريوس الى الدكتوراة في العالم العربي والغربي وشرق اسيا. وجدت المشكلة انها مقتصرة على بعض الخليجيين، اما باقي العرب ومنهم البحرينيون يركبون التاكسي والباص ولاعيب في ذلك. اعتقد انه باصلاح السياسة في البحرين ممكن لاهلها تطوير التعليم والصحة والمواصلات، وممكن للبحرين منافسة سنغافورة. لكني كمواطن بحريني وعلى الرغم من تقدمي التعليمي اشعر بالتمييز والظلم، فما حال اولئك اللذين بلاعمل؟ المميز في شرق اسيا هو تكافؤ الفرص بين المواطنين

    • زائر 1 | 10:08 م

      دم الانتماء للنظام السياسي

      اخي عبيدلي اختلف معك في أن هذا السلوك يعكس بعدم الانتماء للوطن بل هو يعكس عدم الانتماء و الايمان بالنظام السياسي الحاكم لآنه أي النظام السياسي في جوهره قائم على الاستحواذ على كل شئ في البلد و استبعاد المواطن من مشاركته و تمتعه بحقوقه. فهذا السلوك سلوك احتجاجي شعبي ترسخ نتيجة القهر السياسي.
      فهذا سلوك المقهورين

اقرأ ايضاً