في مواجهة الوضع الناجم عن تفجيرات 16 مايو/ أيار التي استهدفت عدة أماكن في الدار البيضاء (العاصمة الاقتصادية للمغرب)، شرعت الدولة والأحزاب السياسية وهيئات المجتمع المدني في مراجعة شاملة لحساباتها ومواقفها، وحتى لجزء من خططها. ذلك، في الوقت الذي بدأت فيه بعض القوى السياسية تصادف صعوبات ذاتية وموضوعية أدت إلى استقالة بعض رموزها، كما حصل مع «حزب العدالة والتنمية» (إسلامي معتدل ممثل في البرلمان)، وانسحابات، كما حدث مع حزب الاستقلال بانتقال أحد نوابه وهو رجل الأعمال ميلود الشعبي إلى حزب يساري. بدايات ستسحب نفسها من دون شك في الأسابيع المقبلة على فصائل أخرى، وخصوصا أن البلاد تستعد لإجراء الانتخابات البلدية في وقت قريب.
يُجمع المراقبون على أن ما حصل كان بمثابة صحوة مزعجة للمجتمع المغربي وطبقته السياسية على السواء، بعد أن تبين بأن الجميع قلل من أبعاد وعمق المخاطر التي كانت تلوح في الأفق. كما ولم تمنع المعلومات التي وردت بهذا الشأن في الفترات الأخيرة، ولا الاستعدادات المعلنة من قبل الأجهزة المعنية من تدارك التفجيرات على رغم اعتقال وتوقيف العشرات من الأشخاص المتهمين بالقيام بأنشطة مخالفة للقوانين، في طليعتهم بعض رموز «السلطة الجهادية». فالحديث عن الصحوة المزعجة أكدته بشكل عام ردود الفعل التي لا تزال ترد بكثافة منذ تاريخ هذه التفجيرات، أي أكثر من نحو شهر وحتى اليوم، مع تقدم التحقيقات التي تكتشف تباعا جوانب خفية من هذه الشبكة الإرهابية.
باختصار، لقد كادت هذه العمليات أن تزرع بذرر الشك لدى المغاربة والمحللين السياسيين بجدوى مقولة ما يسمى «بالاستثناء المغربي» بمعنى آخر، القدرة على تجنب انتقال عدوى الإرهاب طوال سنوات طويلة إلى هذا البلد على رغم انتشاره في العالم الغربي، وفي بعض دول الجوار وتحديدا الجزائر.
ما حدا بمختلف القوى الفاعلة في الساحتين السياسية والاقتصادية إلى التحرك بسرعة لتجاوز هول المفاجأة القاسية من جهة، ومن جهة أخرى إعادة تموضعها بشكل أفضل، محاولة الاستفادة من هذا الدرس للاقتراب أكثر فأكثر من الواقع الصعب. فبالنسبة إلى الجميع، أي الدولة وهيئات المجتمع المدني في المغرب عموما، وخصوصا بالنسبة إلى الأحزاب. هذه الأخيرة، التي يجب عليها من الآن فصاعدا الاقتراب من قواعدها، والاهتمام كذلك بالشأن الاجتماعي وعدم ترك فراغ يمكن أن تستغله قوى مهمشة لا تلبث أن تتحول إلى تجمعات دينية متطرفة، خارجة عن سيطرة التيار الإسلامي المغربي، الموالي والمعارض على حد سواء.
المبادرة الملكية وهزال الأحزاب
في الخطاب الذي ألقاه في 29 مايو الماضي، بدا الملك محمد السادس واضحا للغاية في توجهاته، حاسما في مواقفه، واضعا جميع الأحزاب أمام مسئولياتها، بما فيها الحكومة التي اختار أعضاءها بدقة، داعيا إلى مراجعة دقيقة للحسابات والخطوات، ذلك لأن ما حدث يجب أن يكون بمثابة جرس إنذار يضع حدا للمناورات والمزايدات. فبالنسبة إليه لم يعد هنالك أي تبرير للتقاعس عن القيام بالواجبات، ولا باللعب على التناقضات الموجودة - كما يجري منذ فترة - وخصوصا استغلال التيار الديني لتعزيز المواقع. فالمطلوب اليوم هو إعادة تأكيد التشدد وفق القوانين المرعية، ودعم «المشروع المجتمعي الديمقراطي التحديثي»، الذي اضطلع به هو شخصيا لردم الهوة بين الفقراء والأغنياء، وصولا إلى خلق طبقة وسطى مغربية - ضعيفة حاليا - التي وحدها، حسب اعتقاد الملك الشاب، قادرة على تشكيل حاجز في وجه نشوء قوى يمكن أن تستغل الفقر والدين لضرب استقلال البلد. فالطريقة التي يدار من خلالها التحقيق الجاري حتى الساعة. كذلك الإجراءات السريعة والفاعلة التي ترافقه في مختلف أنحاء البلاد، وفي وقت واحد، أدت إلى إطلاق الكثير من علامات الاستفهام حيال حالات الاسترخاء والثغرات التي استغلتها الشبكة الإرهابية لتنظيم نفسها وتوجيه الضربة بالسهولة التي تمت بها. أسئلة معقدة، إن لم تكن مؤلمة، ستفرض على السلطة بالدرجة الأولى إعادة النظر في مستويات هيكليتها التنظيمية بما في ذلك ضرورة تحديثها بالسرعة القصوى وحشد طاقاتها بشكل مركز بعيد عن العشوائية، ومضاعفة تأهيل كامل أطرها الأمنية والإدارية.
وإذا كانت الأحزاب السياسية قد حاولت إثر التفجيرات، تغطية عجزها عبر تحميل مسئولية ما حصل لمن تولوا السلطة طوال أكثر من ثلاثة عقود - وتحديدا وزير الداخلية الأسبق إدريس البصري - نتيجة إهمالهم لنمو أحزمة البؤس حول المدن وتركها فريسة للتيارات الدينية المتطرفة. فإن هذا التبرير لم يعفها من المسئولية. بل على العكس من ذلك، فقد أساء إلى سمعتها، كون المجتمع المغربي يصف هذه الأحزاب بالانتهازية، خصوصا اليسارية منها، التي تولت دفة قيادة السلطة التنفيذية نحو أربع سنوات عبر ما يسمى بحكومة «التناوب» التي ترأسها الأمين العام لحزب «الاتحاد الاشتراكي للقوى الشعبية» عبدالرحمن اليوسفي. ويرى المغاربة أن الوقت اليوم ليس لتصفية الحسابات مع الماضي، ولا الاعتقاد بأن التهجم على التيار الإسلامي المعتدل، الذي يملك أكثر من 40 في المئة من المقاعد في البرلمان، هو «ضربة معلم» في هذه المرحلة بالذات. بل يجب على هذه الأحزاب أن تعيد النظر في سلوكياتها. وفي الأخطاء التي ارتكبتها خلال ممارستها للسلطة، واعتماد مبدأ النقد الذاتي فيما إذا كانت تريد فعلا المساهمة في إحداث تغييرات جذرية في البلاد.
على أية حال، يؤكد المحللون السياسيون المغاربة على اتجاهاتهم ومشاربهم كافة، أن هذه الأحزاب جميعا هي اليوم في مواقف لا تحسد عليها.
الأكثر من ذلك، يعيب المغاربة على الأحزاب السياسية، عجزها الايديولوجي وعدم تطويرها أفكارها ما ترك الساحة خالية لترويج أفكار التيار الإسلامي بتعقيداته وتشعباته، وسمح في نهاية المطاف للداعين إلى الحقد والعنف كوسيلة بالبروز على السطح. فما كان من الأحزاب إلا أن تحركت عبر تنظيم مسيرة الدار البيضاء. إلا أنها لم تكن كافية على رغم الحشد الكبير نسبيا، ومن الدعم الذي وفرته لإنجاحها أجهزة الدولة، لتمكين هذه الأحزاب من استعادة زمام المبادرة... وبعض صدقيتها.
إلا أن الهجمة من قبل صحافتها على الانعكاسات السلبية لتأثير «الوهابية» في المغرب، ودور شريحة كبرى من المدرسين في تبنيها، وبالتالي تلقينها للطلاب، وضرورة قيام وزارتي التربية والأوقاف الإسلامية، بمراجعة هذا الوضع الخطير بدءا من العام الدراسي المقبل، لم تلق التجاوب المنشود. لأن قطاع التدريس كان خاضعا طوال سنين عدة لسيطرة الأحزاب اليسارية ونقاباتها الطلابية وأفكارها.
انطلاقا من الفرضيات التي وضعتها أحزاب «الكتلة» سابقا (التحالف بين أحزاب اليسار والاستقلال، هذا الأخير المتحالف ضمنا مع التيار الإسلامي المعتدل)، فإن «حزب العدالة والتنمية»، الذي يقوده عبدالكريم الخطيب (على علاقة تاريخية بالقصر الملكي)، هو المستهدف في هذه المرحلة، لأنه بحسب رأيها تساهل مع الدعاية الإسلامية المنغلقة التي مهدت الطريق أمام نشوء تطرف «تكفيري» يؤمن بالعنف أداة. فعلى رغم نفي قادة هذا الحزب والصحافة الدائرة في فلكه لهكذا اتهامات فإن بعض مسئوليه تمسكوا بمواقفهم المبدئية من لناحية التقليل من أهمية وجود وتأثير تيار «السلفية الجهادية» المؤيدة لأسامة بن لادن في المغرب.
غضبة المجتمع المدني
«قرف وغضب» بهاتين الكلمتين لخص مسئول سابق في الحزب الشيوعي المغربي الوضع السائد حاليا لدى المجتمع المغربي. فهذا الأخير الذي أصبح اليوم أحد أبرز رموز المجتمع المدني وخصوصا بعد إنشائه «الجمعية الوطنية لمناهضة الحقد» إثر تفجيرات الدار البيضاء أكد أنه بات يتحتم على جميع القوى أن تبدأ مع الأسف من الصفر. من جهتها، بدأت هيئات أخرى بوضع برامج وخطط جديدة للتحرك لمواجهة الأنشطة الفكرية والاجتماعية للتيارات الدينية على أرض الواقع، أي داخل أحزمة البؤس، والجمعيات الخيرية، وحتى في المساجد. ولم تتوان هذه الهيئات عن تحميل وزير الأوقاف السابق، عبدالكبير العلوي المدغري، مسئولية ما آل إليه الوضع نتيجة تحالفاته طوال أكثر من عشر سنوات مع التيارات الدينية على مختلف اتجاهاتها. كذلك، دعم بعضها ماديا عبر الموازنة الضخمة الموضوعة بتصرف وزارته. وأيضا، تشجيع الفكر الوهابي، المعاكس للمذهب المالكي المغاربي وصرف النظر عن الاهتمام بالتدفقات المالية التي كانت تصل بشكل منتظم للكثير من الجمعيات والأحزاب من جهات خارجية لم تحددها.
وترى هذه الهيئات إلى أن الأكثر إلحاحا اليوم هو تعبئة المجتمع كي يواكب حال النهوض الوطني ودعم المشروع المجتمعي الذي اضطلع به الملك، لأن ذلك هو المخرج شبه الوحيد لمواجهة الحالات العنيفة التي يمكن أن تطفو على السطح فيما لو استمر الوضع على حاله من وهن للأحزاب السياسية من جهة، وتفاقم المشكلات الاجتماعية وفي طليعتها البطالة. فالوقت اليوم في المغرب خاضع لمراجعات بالعمق، وعلى المستويات كافة، كي لا تتكرر هزة الدار البيضاء في أماكن أخرى. فإذا كانت الدولة والأجهزة الأمنية المتعددة قد شرعت بذلك، فإنه لا يبدو حتى الآن أن الأحزاب السياسية قد خرجت فعلا من أطرها الجامدة التي وضعت نفسها بداخلها منذ زمن، مفضلة على الدوام اعتماد سياسة الهروب إلى الأمام عبر تحميل المسئوليات، تارة للمخزن (أي الأجهزة المرتبطة بالقصر الملكي)، وتارات لإهمال الأجهزة الأمنية في القيام بواجباتها في هذا المجال، والتوجه بدلا من ذلك إلى ملاحقة نشطاء الأحزاب والنقابيين.
على أية حال، فإن تفجيرات الدار البيضاء يمكن أن تشكل منعطفا بالنسبة إلى الجميع. فعلى ضوئها سيتحدد مستطيل أطراف كثيرة على الساحة السياسية. كذلك، فمن الممكن أن تسقط نتيجة التحقيقات الجارية رؤوس كثيرة بعد أن تثبت الوقائع أنه حان قطافها
العدد 289 - السبت 21 يونيو 2003م الموافق 20 ربيع الثاني 1424هـ