الحوار بين القوى المتصارعة ليس بدعة اخترعت اليوم ومن أجل ساحة العمل السياسي البحرينية، بل هو نظام متكامل تدرس مواده وفنونه في الكليات الحربية، ومعاهد الدراسات الاستراتيجية، وكليات العلوم السياسية. وبنود الاتفاقيات التي وقعت بعد الحروب وأثنائها، صيغت في جلسات الحوار، والمؤتمرات التي تم عقدها للتوصل إلى ما ينسق العلاقة بين الأطراف المتحاربة في أعقاب الحروب الطاحنة التي دارت رحاها بينهم.
الحقيقة التي لا ينكرها أحد أن خلاصات ما تم التوقيع عليه، عكست، وسوف تستمر في التعبير عن، موازين القوى التي يتمتع بها كل من أطراف الصراع في مرحلة الدخول في تلك المفاوضات.
هذا يرفع علامة استفهام كبيرة وواضحة في وجه كل من يسلك طريق العمل السياسي الذي عليه أن يتوقع، وفي كل مرحلة من مراحل النضال، بروز الحاجة للحوار وضرورة الجلوس إلى طاولة المفاوضات. وبالتالي فالحكم على صحة المواقف، وسلامتها يحدده مسار الحوارات، وليس اللجوء إليها.
تساؤلات تفرض نفسها، وينبغي أن يثيرها ذاتياً من ينخرط في العمل السياسي، وعلى وجه الخصوص القادة منهم، متوخين، وهم بصدد الإجابة عليها، أعلى درجة من درجات الشفافية والصدق مع الذات، قبل وضع الاعتبار لما سيقوله الآخرون، تخاطبهم مباشرة قائلة: بعد حشد القوات وخوض معارك النضال، بما فيها تلك السلمية منها، كيف سيتوصل الطرفان إلى اتفاق يحدد مسارات العلاقة بينهما؟ وهل الصراع بين الأطراف حالة سرمدية ترفض الجلوس إلى طاولة المفاوضات، ولا تعرف التوقف؟
لسنا بحاجة إلى الاستعانة بتاريخ الشعوب الأخرى، او حتى العودة إلى ملفات الحركة الوطنية البحرينية القديمة في الثلاثينيات من القرن الماضي، كي نثبت صحة ما ندعو له من ضرورة تناوب أشكال النضال، وفي القلب منها حوار المتصارعين. فهناك، لمن يريد أن يقرأ الكلمات بعد ان نضع النقاط على حروفها، مسيرة هيئة الاتحاد الوطني في الخمسينيات من القرن الماضي، التي لم تمنعها معاركها اليومية التي كانت تخوضها في شوارع البحرين، من تكرار الجلوس إلى طاولة المفاوضات لمواجهة مستشار حكومة البحرين، حينها، تشارلس بلغريف. ومن يتابع تقدم الهيئة أو اضطرارها للتراجع في بعض الأحيان، يرى فيهما ترمومتراً حقيقياً يعكس موازين القوى في الشارع البحريني حينها.
لكن لماذا العودة نصف قرن إلى الوراء والغوص بعيدا في أعماق التاريخ، والبحث في دفاتره القديمة، يمكننا الاستفادة من تجربة قيادات العمل الوطني التي رجعت من المنافي، إثر إصدار العفو العام في مطلع هذا القرن، تدشيناً لما بشر به المشروع الإصلاحي.
لقد تفاوتت ردود فعل تلك القيادات ومواقفها، التي لسنا بصدد اليوم جردها أو تقويمها جميعاً. يكفي أن نستشهد بأحد أشكالها، الذي يخدم ما نحاول توضيحه، ما نناشد من يدعو اليوم إلى مقاطعة أي شكل من أشكال الحوار مع أي طرف من أطراف السلطة السياسية، معتبراً في ذلك السلوك تفريطاً في حقوق المواطن، وتقديم تنازلات غير مشروعة تضر بمسيرة العمل الوطني، وتسيء إليه، إلى قراءة مسيرة العائدين من المنافي، خلال السنوات العشر التي انقضت على تدشين المشروع الإصلاحي، كي يرى، وهم الذين كانت ضريبتهم باهظة، كيف نجحوا في الموازنة بين تصعيد حدة الصراع والجلوس إلى موائد المفاوضات.
لقد سبقت عودة أولئك القادة تصريحاتهم النارية التي صاغت مواقفهم المرتبطة بموافقتهم على العودة، منطلقين في ذلك من إيمان عميق أن ما جنوه حينها لم يكن ليتحقق لولا النضالات التي خاضتها جماهير البحرين التي تبدأ خيوطها الحديثة بتحركات هيئة الاتحاد الوطني، ولم تتوقف بانتكاسة انتفاضة مارس/ آذار في الستينيات، ولم تحبطها مواجهات الدولة القاسية، وما رافقها من حملات الاعتقالات الجماعية لاضطرابات التسعينيات.
لقد رفض أولئك القادة، ومعهم الكثير ممن سبقوهم إلى العودة إلى الوطن تصنيف ما انتزعوه من مكاسب على أنه مكرمة، ورأوا فيها محصلة طبيعية للتضحيات التي أشرنا إليها. لكن كل ذلك لم يمنعهم من الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع السلطة التنفيذية، رغم تحاشي هذه الأخيرة، التي كانت حينها في مواقع الدفاع، إضفاء الطابع الرسمي على تلك اللقاءات التي تمت بين الاثنين.
لقد نجح العائدون في تثبيت ما تم انتزاعه، والانطلاق منه لتحقيق المزيد من المكاسب الأخرى. هل من الصحيح، واليوم ونحن ننعم بمكاسب حققتها جماهير الشعب البحرينية، وسم ما قام به أولئك القادة بأي من الصفات التي تمس تمسكهم بمطالب المواطن، أو التفريط بمشروعهم الأكبر الطامح إلى بناء مجتمع وطني ديمقراطي بالمدلول الصحيح المعاصر لهذا التعبير.
لقد عض هؤلاء القادة، وهم في طريقهم للقاء المسئولين في السلطة التنفيذية، على جراحهم، وحملوا معهم هموم المواطن، سوية مع ملفات برامجهم السياسية، وأصروا، بثقة متناهية، على التمسك بتوسيع الهوامش التي انتزعوها. وتلا ذلك مواصلتهم النضال، حتى وهم ينعمون بما أتاحته لهم بنود الميثاق الوطني، ومواد دستور 2001، ومطالبة من كان يحاورهم من السلطة التنفيذية بتقديم المزيد من التنازلات.
لم يفرط أي واحد من هؤلاء في المبادئ التي يحملها، ولم يساوم على الأهداف التي يناضل من أجلها، بل كان متشددا في مطالبه، الأمر الذي ولد حالة سياسية إيجابية استفادت منها أطراف المعارضة كافة في معاركها التي لا تزال تخوضها، وفي المقدمة منها قرار المشاركة الصائب الذي اتخذته الأطراف المقاطعة، والذي يساهم اليوم في إزاحة الأشواك، وزرع الورود في طرق الحوار الوطني الديمقراطي، الذي يأمل الجميع أن يفتح الأبواب الموصدة، ويسلك الطرق الصحيحة التي توصله إلى بلورة البرنامج المشترك لكل أطرافه، تنظيمات وشخصيات وطنية ديمقراطية.
تلك نقاط مضيئة على حروف واضحة تعين من يريد القراءة على فهم ما جاء في نصوصها، لكنها لا تدعي أنها المقاطع الوحيدة، فهي لا تدعي تجاوز حدود الاجتهاد الصادق الباحث، مع الآخرين عن الحقيقة... ومن اجتهد فله أجران.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2881 - الإثنين 26 يوليو 2010م الموافق 13 شعبان 1431هـ