طبيعي أن الناس الذين يقررون اتفاقاً كهذا ملزمون بتنفيذه، ومرغمون على الطاعة للإرادة الحاصلة من إرادتهم، والمخولة بصلاحيات واسعة نشأت من تفويض الناس حقوقهم إليها.
ويحصر هوبس حقوق الحاكم، (أو الهيئة الحاكمة)، وصلاحياته الواسعة في أحد عشر أمراً، تدور كلها على تعهد الناس ومسئوليتهم تجاه الحاكم، وعدم مسئولية الحكومة تجاه الناس. فمن جملة ذلك أنه يذكر في الأمر الثاني أن أي عمل يقوم به الحاكم لا يؤدي إلى إلغاء اتفاق الناس، إذ إن حق التمثيل ينقل، بموجب الاتفاق الذي أقره الأفراد فيما بينهم، إلى الحاكم، في حين لا يكون الحاكم طرفاً في اتفاق الناس ليكون ملزماً برعاية أمر معين.
ومع ذلك كله فإن صلاحية الحكومة وسلطانها، فيما يرتبط بحياة الإنسان، محدودة برأي هوبس؛ لأن فلسفة وجود الدولة هي حفظ الحياة وتحقيق الأمن فيها.
وفي الفصل الحادي والعشرين من الكتاب الثاني، يبحث هوبس عن هذا الموضوع مفصلاً تحت عنوان «حرية الأتباع» - وهو، للمناسبة، بحث يرى بعض أهل الرأي أنه من جملة موارد التناقض في آراء هوبس السياسية.
فمن مقدمات هوبس أن تكون سلطة الحاكم سلطة مطلقة غير مقيدة، لأن الغاية من تأسيس الحكومة تحقيق مصلحة المجتمع، وليس غيره مخولاً تشخيص المصلحة. لكن هوبس لا يلبث أن يقر للمواطنين بحق التمرد عندما تتعرض حياتهم للخطر، أي يقر لهم بصلاحية تشخيص المصلحة أيضاً.
ومهما كانت فلسفة هوبس وفكره السياسي، فهما نابعان من نظرته المادية. وهو، وإن لم ينكر وجود الله كما سبقت الإشارة، لا يفرد له أو لأي قوة غيبية محلاً في منظومته الفلسفية السياسية. ومن ثم، بل من باب أولى، فإن رؤيته الكونية القائمة على الحس والتجربة مختلفة كل الاختلاف عن فلسفة أسلافه، لاسيما فلسفة العصور الوسطى.
إن غاية السياسة، برأي هوبس، مصلحة الأفراد الذين مهما بلغ من تنافسهم فإن الخطر والخوف من الموت يدفعهم إلى اتباع الذي يمكنه، دون سواه، أن يرشد البشر إلى مصلحتهم التي هي الأمن في الحياة الدنيا.
واضح جداً أن عالم هوبس ومفهوم الطبيعة عنده يختلفان اختلافاً كلياً عن عالم أفلاطون وأرسطو، وعن عالم العصور الوسطى وطبيعته. كما أن عقل هوبس يختلف أيضاً عما كان معروفاً في اليونان القديمة، تحت اسم العقل. فما شهدته العصور الوسطى من مخالفات للعقل وأحكامه، لاسيما على أيدي المتألهين، لم تكن بمعنى التنازل عن العقل لمصلحة النوازع الذاتية، بل كان مقتضاها التجاوز والخروج منه إلى عالم أسمى من عالم العقل. وأما هوبس فنزل بالعقل - متابعاً ماكيافللي - إلى حد جعله أداة لتحقيق المصالح والرغبات الناشئة من الطبيعة المادية، وميزاناً تزان به الوسائل المؤدية إلى ذلك؛ أي إنه، وببساطة، وضعه في خدمة الإنسان الذي تمثل الرغبات والانفعالات النفسية والإحساس أهم مظاهر وجوده.
إن غاية الإنسان عند هوبس هي الأمن في هذا العالم، والتخلص من الحياة الذليلة الحقيرة القصيرة، وغاية الإنسان هذه هي عين مصلحته أيضاً، وما العقل إلا وسيلة طبيعية للوصول إليهما، (الغاية والمصلحة).
فعقل هوبس الذي يلحظ المصلحة، ويتوخى المنفعة، ولا يرى غير الدنيا عالماً، (أو لا يرى ما وراءها على الأقل)، هو العقل الغالب في العالم الجديد.
كذلك يمكن القول إن المذهب النفعي (Utilitarianism) الذي نادى به بنتام (1748 - 1832م)، أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، والمعدود أحد أركان النظام الأخلاقي والسياسي لعصرنا، ليس أمراً حادثاً، بل يمكن اعتبار هوبس رائد بنتام في هذا الباب.
فقلما نجد من يتحدث عن «إطلاق» سلطة الحكومة وعدم مسئوليتها تجاه مواطنيها، أو أي هيئة أخرى، ولزوم تبعية المواطنين المطلقة للحكومة، بصراحة هوبس وإصراره.
ولكن من المسلم به أن أحوال الفترة التي عاشها هوبس كان لها تأثير في استفادته نتيجة كهذه من المقدمات التي بنى عليها. ولعلها وراء اعتقاد هوبس بأن الطريق الوحيد لإنقاذ المجتمع هو بإيلاء نظام من هذا القبيل مسئولية الحكومة. ومهما كان، فإن تلك المقدمات وتلك النتيجة تنسجم مع روح عصر هوبس، وتشكل علامة فارقة تدل على قطيعة بين هوبس والماضي. ففكر هوبس مرآة لزمانه، ,خصوصاً أننا نجد في أفكاره حقيقتين كانتا جاريتين في ذلك الزمان، إحداهما الرؤية الكونية الجديدة التي تختلف عن الرؤية الكونية السابقة، والأخرى هاجس الاضطرابات الاجتماعية، أكانت من مثل الذي أدت إليه الاشتباكات المذهبية، أم النزاعات «الطبقية» التي قادت المجتمع من الوضع الذهني والاقتصادي الماضي إلى الحالة الجديدة التي يعد الاعتماد فيها على العقل التجريبي والنفعي مفتاحاً لحل المشاكل، إذ علينا ألا نغفل أن الرأسمالية الناشئة كانت قد أرست قواعدها وأخذ ينظر إليها كحجر الزاوية لقوة المجتمع الغربي الاقتصادية والسياسية.
جاء في كتاب أرباب الفكر السياسي عن هذا الموضوع:
«حادثتان مهمتان طرأتا في النصف الأول من القرن السابع عشر، وكان لهما تأثير كبير على الأوروبيين الواعين بمن فيهم هوبس: أولاهما تكامل العلم الطبيعي الذي تولدت عنه رؤية جديدة تختلف تماماً عن الرؤية السابقة. وحسبنا القول إن هذا القرن كان قرن غاليليو لندرك خطره. فهذا العلم الطبيعي بدل التصور التخيلي الكيفي القديم المرتبط بعالم المادة إلى تصور استقرائي كمي صرف، وكان هوبس يعتبر أن أطروحات غاليليو الرياضية تصدق على جميع الظواهر، بدءاً بالأجرام السماوية الكبيرة، وانتهاءً بأصغر وأبسط حركات خلايا مخ الإنسان وكان يفرض، ليصحح مقصوده، أن كل ما له وجود جسم، أي أن كل ما يتمتع بالموجودية، متألف من أجزاء تتحرك وفقاً لقوانين علم الحركات وآيل لأن يدرس من ألفه إلى يائه بدقة رياضية، بدءاً بأبسط حركة يتحركها أي عنصر مجرد، وانتهاء بأكمل مجموعة إنسانية، تخضع لقوانين الحركة البسيطة والأساسية بشكل متكافئ... لا نعني بهذا أنه استنتج نظريته في علم النفس أو علم المجتمع من قوانين الحركة ولكنه استلهم، دونما شك، آراء عصره العامة لتأسيس تلك النظرية».
ويضيف جونز مؤلف الكتاب المذكور:
«أما الواقعة الثانية التي تركت تأثيراً عميقاً على فكر هوبس فهي الوضع الدموي الوحشي العنيف الذي حصل إثر حرب إنجلترا الداخلية. ولا ريب أن مشاهدات هوبس خلال فترات التمرد الدموية بعض ما أوصله إلى القول بأن الإنسان حيوان يتحكم به نازعان: الخوف والمنفعة الشخصية، وأن كل دافع آخر فرع من إحدى هاتين الغريزتين».
إن النزاعات، والفوضى والاضطرابات الاجتماعية مسئولة لربما عن تشاؤم أمثال هوبس في ما يخص الإنسان، وهي المسئولة عن شكه في قدرة العلم على إسعاد البشرية. وعلى هذا فلا عجب أن جوّز هوبس «الحكومة المطلقة» من أجل استقرار النظام، والحيلولة دون شيوع الفوضى والشغب، ولتوفير فرصة أكبر لاستغلال العلم والتقنية؛ وبجملة واحدة لاستقرار أسس الحضارة الحديثة.
في تحليل نهائي لخصائص الإنسان الطبيعية، معطوفة على دراسة لأوضاع العصر وأحوال الزمان، يصل هوبس إلى ضرورة قيام نظام مطلق. لكن ما يعنينا التنبيه إليه في هذا المقام هو أن الإطلاق الهوبسي أمر طبيعي وبشري، وحاصل تحليل وتأمل عقلي، وليس بمنطوٍ على أي جانب غيبي أو قدسي. وهوبس، وإن كان مؤيداً للملكية المطلقة، المؤسسة على أسس عرفية، لا ينفي أنواع الحكومة الأخرى من مثل «الديمقراطية»
أو «الارستقراطية» بل يعتقد أن الحكومة، أياً كانت، لابد أن تتمتع بسيادة كاملة (Entire) لا تقبل التجزئة (Indivisible). وهذا ما يفسر أن آراء هوبس لم تلق استقبالاً طيباً لدى القائلين بأن سلطة الملوك وشرعية سلطتهم هذه ذات طبع قدسي.
صاحب الأمر عند هوبس لا يمثل سلطة فوق سلطة البشر، بل هو إنسان أرضي يمثل قوة نامية ومتدفقة يتحتم عليها، بالاعتماد على سلطة الملك الرمزية:
1) أن تطيح بالنظام الإقطاعي.
2) أن تقلل من تأثير الدين في الحياة الاجتماعية إلى أدنى حد ممكن.
3) أن تعبر عن سيادة الشعب وإرادته، عوضاً عن السيادة الإلهية أو الطبيعية.
إن فكر هوبس يعكس دون ريب أوضاع مرحلة عابرة؛ ولأنه كذلك فلقد انفتح على أدوار من التاريخ أوفر استقراراً، تبلور خلالها إطار النظام السياسي الأساسي الموافق لأوضاع اقتصادية واجتماعية، تنتسب بدورها إلى عهد جديد من عهود التاريخ كان عنوانه جان لوك.
إقرأ أيضا لـ "محمد خاتمي "العدد 2877 - الخميس 22 يوليو 2010م الموافق 09 شعبان 1431هـ
هل ولاية الفقيه ديكتاتوريه؟؟؟
لماذا بما ان ايران مرت بعهود وافكار وتجارب ومراحل مثل الدول الاوروبيه والشعب تواق وذكي للتغييرات لكن سيف الدوله على رقابهم وهل اذا الانسان ابتعد عن الدين سوف يتطور ويحصل على الحريه اكثر او لربما انفع له وفي نظرك ايران ام تركيا اكثر تطوروحريه؟؟؟