كل هذه الخطابات والتصريحات والكتابات تبدو مبررة، لا بل هي كافية لإقناعنا بأن السماء حبلى بأمطار كثيرة ستتساقط علينا مبكرا هذا العام. فالتطابق والتقارب بين خطب الأمنيات والأحلام لتشكيل وحدة لقوى التيار الوطني الديمقراطي التقدمي ما برح يحلق بنا، ويناسل من أحلام يقظتنا وأمنياتنا كباقي الأقوام، لنفيق بعد ذلك على استنتاجات أخرى حالمة بظهور بوادر جادة لتشيد بناء الوحدة المزعومة، - أي - وحدة التيار الوطني الديمقراطي التقدمي.
دعونا نتصارح بأن الواقع لا يدعم بتاتا هذا الزعم وهذه الأمنيات والأحلام، كما خطابات المغازلة الواردة من هنا وهناك، فثمة أسباب وظواهر تمثل حقائق على أرض الواقع يدركها المتتبع، وتؤشر إلى أن مشروع الوحدة المزعوم برمته تتلاعب به العواصف، وقد غدا من الصعوبة بمكان تسويغه طالما استقرت الأسباب والظواهر ذاتها في الذاكرة والسلوك الجمعي لقيادات وقواعد قوى هذا التيار، أنها الأسباب التي تقوض أساسات التلاقي وتمنع تنفيذ أية نتائج إيجابية لمقررات الاجتماعات واللقاءات ومئات الخطابات التي كثرت وتعددت هذه الأيام.
نقول بكل وضوح أن الأرض جرداء، قاحلة لتشيد حلم الوحدة المزعوم وهي أمنية جميع المنتمين إلى هذا التيار وانصاره، نؤكد وبحسن نية أنه من الممكن أن تتخلق وحدة لقوى التيار الوطني الديمقراطي التقدمي بعدما يتم التغلب على المسببات وتجاوز الظواهر البارزة المتمثلة في الأمور الآتية:
الذهنية المتحايلة التي تتفادى وبشتى الوسائل والطرق مغادرة أطر تفكيرها، وتجربتها، وخلافاتها التي حكمت علاقاتها النضالية والسياسية طيلة العقود السابقة ولاتزال، مغادرة الثقافة السياسية والتنظيمية التي تربت القواعد عليها (أنا الأفضل، أنا المخلص الوفي للوطن، التقدمي الطليعي، أنا القائد، المتنور.. الخ الأنات والقصص المعروفة)، فضلا عن تشخيص الداء بلغة (يجب علينا، ومن الضروري أن يكون كذا وكذا.. الخ من قبل من بيدهم الحل والربط) هذه اللغة لم تعد تنفع لقيادة مرحلة هي الأخطر في تاريخ العصر، أننا نتحدث هنا عن الجميع دون استثناء، فيكفي أن نقرأ ما بين سطور هذه الذهنيات حال الفرز لقوى التيار الوطني الديمقراطي التقدمي من منطق (المشاركة، المقاطعة)، و(هل نسبة المشاركة في الانتخابات النيابية 46 في المئة أو 50 في المئة وتحديد شرعية الانتخابات من عدمها)، إن هذه العقلية تعكس أفق الفهم النظري لقواعد هذا التيار للعملية الديمقراطية برمتها، مع احترامنا الشديد لأهمية تلك الأسئلة. نذكر فقط أننا جزء من وطن كبير، علينا ما علينا، فهل ندرك ماهية المرحلة التي نمر بها، بمعنى ماهية الوحدة التي ننشدها؟ أشك في ذلك لكن الأمل يحذونا.
من الممكن تشكيل وحدة هذا التيار حينما تُنزع الأقنعة، ويتم التخلي عن محاباة الذات وتبرير سلوكياتها، وكذلك مجاملة الآخرين، ففي الاجتماعات يزخر الحديث الوردي المنمق والمصفف، وقد يُؤلف منها كتاب في علم السياسة والتحالفات والمفاوضات، ولكن ما أن نعود إلى القواعد حتى تفتح دفاتر الحسابات التي تستحضر فيها معايير التضحية ومؤشراتها في السوق الوطنية، والاستحقاقات المستوجبة حسب معايير كل طرف من هذه القوى، وكأن العمل السياسي يقوم اساسا على مبدأ الثواب والعقاب.
قد تتشكل وحدة لهذا التيار وقتما تتوقف قواه عن المرابطة في موقع المصالح السياسية الآنية المحدودية الأفق، وتغادر لمواقع أخرى ثقافية واجتماعية، إضافة إلى الموقع السياسي، وتتمركز وبفاعلية في مواقع العملية التنموية الإنسانية وتحديث المجتمع، فالهيكلية التي يتبناها هذا التيار نظريا ونقصد بها مؤسسات المجتمع المدني ليست حصرا على العمل السياسي إنما تتعداه إلى الثقافي، الاجتماعي، البيئي، الاقتصادي..الخ، وبالتالي (المصالح السياسية أولوية، تقوم على أساسها التحالفات، والمعارك الأخرى ثانوية أو فرعية) قول يحتاج إلى مراجعة جذرية، حتى لا نتناقض مع أنفسنا. سيتساقط وابل من المصائب على مشروع وحدة هذا التيار إذا ما استمرت لغة التحالفات الاستراتيجية سواء مع الجهات الرسمية، أو التقليدية الفكر، ما يعنى إغلاق منافذ مهمة للحوار تكون قوى هذا التيار في أمس الحاجة إليها في بعض الظروف.
وهناك المزيد... الكثير... نختصره في:
الفكر وموقعه في إدارة عمل هذه القوى، مدى مواءمته للعصر والتحديث باتجاه المتغيرات التي طرأت على الساحات المحلية والإقليمية والعالمية، ومدى تناغمه مع ظروف المجتمع وعلاقات أفراده، ومعتقداتهم ورغباتهم ومصالحهم، ومدى قدرة هذه القوى على مزاوجة تجربة مجتمعنا بتجارب من سبقونا في مشروعاتهم التحديثية والديمقراطية. هل استكملت قوى هذا التيار المعرفة لماهية دور منظمات المجتمع المدني، أساسها الفكري، نشؤ فكرتها، لماذا أخذت باتجاه العمل المؤسساتي، والمطالبة بدولة القانون... الخ، هناك فجوة، واختلال كبير بين شعارات الفكر الذي تتبناه قوى هذا التيار وبين الاستيعاب الجوهري لهذا الفكر (والضبابية واضحة عند البعض). اننا نتحدث هنا عن حالة عامة وليس عن قلة من الأفراد عبرت بوضوح عن نفسها نظريا، هناك اختلال كبير بين الخطب التي نسمع ونقرأ كتاباتها، وبين الممارسة والتطبيق على أرض الواقع. لسنا نحاكم هذه القوى، إنما ندعو الجميع إلى التفكر والنظر عن بعد لما هم فاعلون، وما يضيفونه من تراكم فكري وثقافي للمعرفة الإنسانية، فالعمل السياسي ليس موقفا وبيانا ومنشورا آنيا، فمن دون الثقافة والمعرفة لن نحقق المصالح السياسية، لن ينطلق قطار قوى التيار الوطني الديمقراطي التقدمي الحالم بالوحدة، هناك حاجة إلى نفض غبار فكر الزمن الماضي وغطرسته، - أي - فكر زمن ما قبل انهيارات الأنظمة الشمولية، فعقارب الزمن لا تدور أدراجها للوراء. على خطب قوى التيار الوطني الديمقراطي التقدمي أن تتخلص من لغة (نحن، وكنا)، وأن تتخطى الذاتية والجمود.
يصعب على المرء أن يُذكر بمدى نجاح قوى التيار الوطني الديمقراطي التقدمي في تبني قضايا المرأة في برامجه وأدبياته وفي خطبه، وإثبات فشله الذريع في مواءمة هذا التبني النظري البحت مع الممارسة سلوكا ومواقف عملية تبدأ من حرفية العمل التنظيمي والدور الذي يلعبه العنصر النسائي، ومواقف قوى هذا التيار وقضايا المرأة وخصوصا على المستوى التشريعي، فالواقع أثبت تناقض الخطابات التي غلبت المصالح السياسية وتحالفاتها على المعارك الاجتماعية والتنموية، وكأن مناصرة قضايا المرأة محصورة فقط في إصدار بيان تضامني وكفى المسلمون شر الاقتتال. لقد اشتكى الكثير من التيارات النسائية في العالم من مواقف أحزابها ومنظماتها السياسية من مواقف شبيهة بما نمر به، ما دعاها إلى تشكيل تيارها النسائي المنفصل وبلورة مطالباتها في شعارات تحقق مصالح النساء وتحسن من أوضاعهن في المجتمع وأعطت هذه الشعارات أولوية الأولويات في عملياتها النضالية، فهل تدعونا هذه القوى إلى اختصار الطريق والدعوة إلى تشكيل تيار نسائي منفصل تماما عن هذه القوى، له شعاراته النضالية ويخوض معاركه الاجتماعية والتنموية بعيدا عن المصالح السياسية المحدودة الأفق؟ من الصعب تحقيق الحلم إذا اتسمت إجابتنا عن هذا السؤال بالحيرة والتردد والتبرير.
هناك أسئلة كثيرة من مثل مع من نتحالف؟ وعلى أية أسس فكرية وثقافية وسياسية؟ هل هذه التحالفات مرحلية أم استراتيجية؟ أين الحدود والفواصل؟ هذا في الوقت الذي نشدد فيه على أولوية المعركة الدستورية، ومصائر الحقوق والمكتسبات والأزمات الخانقة من فساد وتجنيس وبطالة، وافتقاد لغة حوارية بين المعارضة والحكم. لنتذكر دائما أننا أصحاب مصلحة في التحالفات المتعلقة بالمسألة الدستورية. والآخرون أيضا هم أصحاب مصالح ويجب أن يحافظوا على العلائق التي تدعم هذه المصالح من دون التلويح باتهامات الكفر، والتغني بغالبية الشارع، فالظروف متغيرة ومجتمعنا جزء من هذا المتغير، هكذا نتعلم من دروس التاريخ والعمل النضالي للشعوب الأخرى.
هناك أهداف ومصالح متباينة ومتشابكة قد يتم التلاقي أو الاختلاف حولها، وجميعها أمور طبيعية في حراك المجتمعات، لكن الذي ليس طبيعيا هو أن تشخصن هذه الخلافات والتباينات وتعكس آثارها على إدارة التلاقي والتضاد بين ممثلي هذه القوى وقواعدها. نكرر الدعوة إلى مزيد من أحلام اليقظة الوردية في عصر منفلت كالريح، ولنا أن نتمنى ألا نجد أنفسنا في آخر الدرب خارج التاريخ بسبب كثرة الحماقات!
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 287 - الخميس 19 يونيو 2003م الموافق 18 ربيع الثاني 1424هـ