تحاشي الانتظار، وسلوك الطريق الصحيحة التي يفترض أن تقود إلى ساحة سياسية سليمة خالية من الأمراض السياسية، وتسودها أجواء نقية تسمح بنشاطات سياسية صحية قادرة على انتشال البلاد من الجمود الذي يلم بها، وتأهيلها لولوج مرحلة جديدة تحمل في أحشائها عناصر النمو والتطور، تتطلب من تلك القوى العمل، وبصدق، من أجل تحقيق أهداف وطنية استراتيجية من خلال الخطوات التالية:
الأولى، على مستوى السلطة التنفيذية، والتي ما تزال تمسك بين يديها زمام المبادرة، والتي ينبغي لها أن تكف عن ممارسة اللهو والاستمتاع بتمزيق الشارع السياسي المعارض من خلال اللهو بإثارة النزاعات الطائفية، وتوجيه التهم الأمنية لهذا الفصيل على حساب ذاك. كل التطورات تؤكد أن ذلك يتم، وبشكل واعٍ، لكن قصير النظر، عوضاً عن التوقف عند القضايا المصيرية الكبرى، ومحاولة وضع حلول جذرية للمشكلات الرئيسة، ذات العلاقة بتلك القضايا، من أجل وضع حد لكل ما من شأنه استفزاز المواطن، وإرغامه على إشعال نيران أشكال من المعارضة العنيفة، بدلاً من تطوير أنماط متقدمة من المعارضة السلمية البناءة لكن غير الصدامية.
تحتاج السلطة التنفيذية اليوم، ونظراً لسيادة نظام عدم تداول السلطة، إلى الكف عن وضع المعارضة، كما تمارس اليوم، في الخانة المناوئة بشكل عدواني أولاً، والقبول بها كشريك وطني يساعدها على تنفيذ برامج التنمية والبناء بشكل مشترك ومسئولية متكاملة ثانياً. هذا يتطلب من دوائر صنع القرار في هذه السلطة، وضع آلية لمشاركة المعارضة في صنع ذلك القرار وتبني خططه التنفيذية من جهة، وخلق أوردة لضخ دماء شابة جديدة تحل مكان القديمة، تتولى عمليات استبدال تلك الدماء الملوثة بخلفيات تاريخية مصدرها قوانين جائرة مثل «قانون أمن الدولة»، وذهنيات كهلة غير قادرة على رؤية التطورات التي يمر بها المجتمع البحريني والتفاعل الإيجابي معها.
هذا المدخل الإيجابي البناء يدفع السلطة التنفيذية، بشكل تلقائي إلى الكف عن محاولات زرع الفتن الطائفية، والابتعاد عن برامج التخطيط للحوادث المخلة بالأمن، أو الانغماس في ترويج مسرحيات الأخطار الخارجية، أو اجترار تمنيات العودة نحو الخلف للالتفاف السلبي على مكاسب المشروع الإصلاحي، ويزرع في صفوف مؤسساتها، عوضاً عن كل ذلك، بذرة السلوك التنموي الصحيح القائم على التأسيس لمبادئ وقيم المواطنة الصالحة، والتي ستضع أقدام السلطة الواقفة اليوم، تماماً كما هو الحال مع المعارضة، على مفترق الطرق، على الفرع الصحيح منها، القادر على غرس أسس ومقاييس مجتمع مدني متحضر يتجه نحو مملكة دستورية معاصرة.
الثانية، على مستوى المعارضة، هناك ضرورة ملحة تدعو إلى محاربة التشرذم السياسي المقزم لها، وتشكيل كتل سياسية كبيرة قادرة على طرح برامج إستراتيجية والدفاع عنها والعمل على تحقيقها من خلال الحوارات بين بعضها البعض على المستوى الداخلي، والتفاوض مع السلطة التنفيذية على مستوى المحيط الخارجي.
هذه الدعوة إلى تشكيل الكتل السياسية الكبيرة، ليست طوباوية، تقفز فوق الخلافات القائمة اليوم في صفوف كل تيار منها على حدة من جهة، وبين تيارات المعارضة المختلفة من جهة أخرى، لكنها بالقدر ذاته، تضع المعارضة، بكل أطيافها أمام مسؤولية تاريخية في تحديد مسار الحراك السياسي البحريني. ليس المطلوب هنا إزالة الاختلافات، وإنما تذويب عناصر المماحكات. فهناك بون شاسع بين الحوارات السياسية البناءة، والمناكفات السياسية الهدامة والهادرة للطاقات. هذه الدعوة تأخذ أيضاً بعين الاعتبار، ومن منطلقات عملية براغماتية، استحالة الوصول، في المرحلة الحالية والمستقبل المنظور، إلى أي شكل من أشكال تداول السلطة، الأمر الذي يجبر المعارضة إلى الارتفاع عن الصغائر التفصيلية دون إهمالها، والوقوف عند القضايا الكبرى الاستراتيجية دون الهلع منها.
تقود هذه الدعوة، وانطلاقاً من تشخيص عملي دقيق لواقع البحرين السياسي القائم، وطبيعة القوى الفاعلة فيه، إلى بلورة ثلاث كتل سياسية معارضة ناضجة على المستويين الكمي التنظيمي، والكيفي الفكري والسياسي، الأولى تعبر عن الفكر السياسي السني والثانية عن الفكر السياسي الشيعي، والثالثة عن الفكر الوطني الديمقراطي، مع مراعاة كل منها إلى قضية أساسية مركزية، هي التزام كل منها، دون أية مساومة، بمبادئ وقيم المواطنة الصالحة، بالمفهوم العصري لهذه المبادئ والقيم. هذا يبيح لكل كتلة منها الدفاع عن مصالح جماهيرها، دون التفريط بحقوق المواطن بشكل عام، ودون الدوس على المبادئ الأساسية لها، بوعي أو بدون وعي.
هذا المنهج يسمح لكل تيار من تلك القوى الثلاث أن ينشط في دائرته الضيقة، دون التفريط بتلك الوطنية الواسعة أو المساومة عليها. حينها تتكامل تلك الدوائر، وتتراجع بفضل ذلك، التناقضات الثانوية بين المعارضة الداخلية في صفوف كل كتلة، أو الخارجية بين الكتل ذاتها، إلى مرتبتها الصحيحة التي تستحقها في درجات سلم الأولويات. وتبرز على السطح المطالب الوطنية الاستراتيجية التي ستضعها المعارضة على طاولة المفاوضات مع السلطة التنفيذية، التي ستجد نفسها مرغمة على تقديم إجابات شافية منطقية، عوضاً عن الردود التهربية التي تحاول كسب الوقت على ما تثيره المعارضة من قضايا وتساؤلات. ستتحول جلسات البرلمان، بدلاً من مسرحيات المطالب الخدمية التكتيكية المجيرة لصالح كسب الأصوات، إلى ورش عمل تدير آلات البناء والتقدم على الطريق الصحيحة التي تقف بداياتها على مفترق الطرق الذي أشرنا له.
تأسيساً على ذلك، سيجد المواطن نفسه، وهو يمارس أنشطته اليومية، ويقوم بواجباته المهنية تجاه السلطة التنفيذية، والتزاماته اليومية تجاه الكتلة المعارضة التي ينتمي لها، ينحاز بشكل واع وقرار داخلي مستقل نحو الدفاع عن حقوق المواطنة التي تحققت له، ويمارس دوره البناء، في إطار الخانة التي يحتلها، في عمليات البناء المنخرط في آلياته. في الوقت ذاته، وعلى قدم المساواة، سيجد المواطن نفسه أيضاً، في أحضان كتل سياسية ناضجة ومسئولة بالمعنى السياسي للتعبيرين، تعينه على الاختيار الصحيح بينها، دون التفريط في سلوكه السليم الملتزم ذاتياً بقيم المواطن والعامل بدأب من أجل الدفاع عن مكتسباتها.
وما لم يتحقق ذلك، فليس أمام البحرين، بكل فئاتها وطوائفها ومؤسساتها، سوى سلك الفرع الثاني من المفترق، الذي سيقودنا، شئنا أم أبينا، نحو نهاية، إن لم تكن مهلكة، فهي مظلمة تعشش فيها ثعابين الطائفية، التي تنفث سمومها القاتلة، وجرذان الفئوية التي تنشر جراثيم طواعينها التي تنهك جسم الحراك السياسي البناء، وينعق فيها بوم الشؤم باثاً النزعات التشاؤمية التي سنكون من بين ضحاياها.
نحن أمام مفترق الطرق هذا وخيارنا سيحدد مصيرنا ويرسم معالم مستقبلنا، الذي لا يريد أحدٌ منا أن يراه مظلماً.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2869 - الأربعاء 14 يوليو 2010م الموافق 01 شعبان 1431هـ