تنطوي الكراهية، بحد ذاتها، على نوع من الاهتمام بالآخرين، وكأن من يكرهني يقيم البرهان على وجودي؛ لأن أحداً لن يناصبني كراهيته إذا كنتُ، بالنسبة إليه، نكرة وتافهاً، أو إذا كان هذا الشخص الكاره لا يكترث بي ولا يعيرني انتباهه واهتمامه. فالكراهية، على هذا، تتطلب أن أكون موجوداً بالنسبة لمن يكرهني، وأن أكون حاضراً في وعيه وشاغلاً لمخيلته، وأنّ على هذا الأخير أن يعترف بوجودي، وأن يلتفت نحوي ويلاحظني، وأن يأخذني بعين اعتباره واهتمامه، وإلا فلا معنى للكراهية عندئذٍ؛ لأنها ستكون كراهية بلا موضوع، أو كراهية بموضوع لا يستحق. إلا أن ما يميز هذا الاهتمام أنه اهتمام سلبي، أي إن من يكرهني إنما يلتفت نحوي ويهتمّ بأمري ويعترف بوجودي من أجل أن يحقق مأربه الخبيث وهو أن ينفي وجودي ويحطّ من قيمتي وكرامتي؛ لأن الغاية البعيدة من الكراهية والإهانة والاحتقار هي أن يُدفع المرء المكروه إلى حالة من الشعور بدونيته وحقارته وتفاهته. وهو حين يصل إلى هذه الحافة يكون على وشك السقوط في العدم وانعدام الإحساس بوجوده؛ والسبب أن دفع المرء إلى أن يحسّ بأنه تافه وحقير «يساوي تقريباً تسديد ضربة قاتلة إلى أناه لا يعادلها أي اعتداء آخر»، وهي ضربة كفيلة، كما يقول تودوروف، بأن تجعل المرء «يرى نفسه مهدداً بالعدم» (الحياة المشتركة، ص131). وبهذه الطريقة فإن من يكرهني ويهينني إنما يمنحني اعترافه ويعيرني انتباهه واهتمامه لغاية خبيثة، وهي نفي وجودي وتسديد تلك الضربة القاتلة إلى إحساسي بقيمتي واحترامي لذاتي.
وهذه غاية يستشعرها أصحاب الكراهية بصورة فطرية، ومن الحوادث الكاشفة في هذا السياق أن الشيخ السلفي ابن جبرين تلقى سؤالاً من أحد موظفي أرامكو، وكان ما يقلق هذا الموظف أنه يعمل «مع رافضة يقصد شيعة] في نفس القسم، وجرت العادة على الاشتراك في وجبات الطعام خلال وقت الدوام، ويكون الأكل جماعياً، وما قد يتخلل ذلك من الضحك والمزاح، مما قد يضعف عند المسلم قضية الولاء والبراء والغيرة على هذا الدين»، كما أن مشكلة هذا الموظف أنه حديث العهد بالوظيفة، وأن مسئوله المباشر من «الرافضة»، الأمر الذي جعله يعيش في حيرة من أمره، فتوجّه إلى شيخه يستفتيه في أمره، فجاء الجواب كالتالي: «عليك أن تحاول الانتقال إلى جهة أخرى لا يوجدون بها، أو لا يكون لهم سلطة فيها، فإن لم تجد قريباً فعليك أن تظهر لهم المقت والاحتقار، والسخرية منهم، وألا يكون لك انبساط معهم ولا انشراح صدر» (موقع الشيخ ابن جبرين). وحين يفتي هذا الشيخ بإظهار المقت والاحتقار والسخرية من الخصم فإنه يعرف أن لذلك أثراً خطيراً في نفس الخصم، كما أنه يعرف أن مشاركة الخصوم في وجبات الطعام والضحك والمزاح معهم إنما هي شكل من أشكال الاعتراف بوجودهم وبقيمتهم.
تختلف الكراهية عن التجاهل واللامبالاة وعدم الاكتراث، إلا أنها تلتقي، في النتيجة، مع هذه التصرفات. ثم إن التجاهل قد لا يتطابق مع الكراهية، إلا أن إحساسنا بأن الآخرين يتجاهلوننا لا يقلّ في خطورته عن شعورنا بأن الآخرين يكرهوننا ويتعمدون إهانتنا واحتقارنا. ومردّ هذا إلى أن الإنسان، حين خرج عن طور توحشّه واختار العيش خارج نفسه ومع الآخرين (أي في مجتمع)، بقي رهين حاجته إلى نظراتهم وتطلعه إلى انتباههم، وصار كمن يعتاش على تقديرهم ويلتمس منهم الاعتراف بأي ثمن. ويمثّل التجاهل، في هذه الحالة، ضرباً من ضروب الاحتقار ونفي الاعتراف، فمن يتجاهلني أكون، بالنسبة إليه، بمثابة المعدوم، وكما أن الإنسان لا يحتمل كراهية تستهدف احتقاره وتتفيهه، فإنه، على الشاكلة ذاتها، لا يحتمل تجاهلاً يُشعره بالعدم أو بانعدام القيمة والأهمية. ولقد لاحظ وليام جيمس، كما ينقل عنه تودوروف، أن ثمة أناساً «لا يهمنا رأيهم إلا قليلاً ومع ذلك فإننا نلتمس منهم الانتباه»؛ لأن عدم انتباههم إلينا يكون بمثابة نفي لوجودنا ونقص في الاعتراف بنا. وكثيراً ما ينتابنا إحساس بالإهانة إذا مرّ شخص بجوارنا ولم يعرنا انتباهه، ونحن، عادة، نفسّر هذا التصرف على أنه إهانة تستهدف إلغاء وجودنا أو تحقيرنا، وكأن عدم الانتباه هنا تعني أننا، في نظر هذا الشخص، بمثابة الحجر والشجر.
ولكن ما الحلّ أمام هذه المعضلة؟ فإذا كنا لا نحتمل كراهية الآخرين لنا، ولا نحتمل، في الوقت ذاته، تجاهلهم أو لامبالاتهم تجاهنا، فهل يكون الحلّ، عندئذٍ، في العزلة وأن يعيش كل منا داخل نفسه وحيداً بمفرده وبعيداً عن الناس؟ طبعاً، لو كان العيش في عزلة عن الآخرين خياراً من بين خيارات عديدة، لما تردد أغلبنا في الذهاب فيه بعيداً طلباً للراحة والهدوء والسكينة، وهو مطلب لطالما اقترن بالعودة إلى الطبيعة، إلى حلم روسو الذي فسّره نيتشه من بعده بالشكل التالي: «إن ما يجعلنا نحبّ كثيراً أن نكون وسط الطبيعة هو كون الطبيعة ليس لها رأي فينا». وعلى الشاكلة ذاتها، فإن ما يجعلنا نحب العزلة أننا لن نجد أحداً معنا يكون له رأي فينا، ويسبب لنا الألم والتعاسة إما بسبب آرائه الوقحة في صراحتها وإما بسبب لامبالاته تجاهنا. وتمثل العزلة والانزواء والابتعاد عن الآخرين، كما لاحظ فرويد، طريقة من طرائق تجنّب الألم الذي يسببه لنا الآخرون، بل هي «التدبّر المباشر للاحتماء من الألم الناشئ عن الاحتكاكات الإنسانية». إلا أن هذه «الاحتكاكات الإنسانية» لم تعد خياراً من الخيارات، بل هي المسار الوحيد المتاح أمامنا للعيش في هذا العالم. وفرويد نفسه يعرف أن الإنسان قد غادر إلى الأبد عزلته المتفردة والقديمة منذ أن قطع مع أصله الطبيعي المتوحّش وكفّ عن أن يكون مجرد حيوان، أي منذ أن أصبح «كائناً اجتماعياً». ومنذ أن حصل ذلك صار الإنسان بأمسّ الحاجة إلى نظرات الآخرين ورأيهم واهتمامهم وانتباههم وتقديرهم واحترامهم واعترافهم، ولولا هذه الحاجة إلى الآخرين لكانت زنزانات الحبس الانفرادي ليست أهون أنواع الحبس على الإطلاق فحسب، بل أكثر أساليب العيش جاذبية لأنها الوحيدة التي تؤمّن لنزلائها العزلة والابتعاد عن الآخرين!
لقد مثّلت هذه الحاجة إلى نظرات الآخرين وتقديرهم وازعاً اجتماعياً لا يستهان به في المجتمعات التقليدية، بحيث كان معظم الناس يتجنّبون اقتراف الرذائل والمقابح والأعمال الدنيئة والحقيرة علناً لا لشيء سوى خشية أن يراهم الآخرون فيسحبون منهم ما كانوا يتمتعون به من شرف وصيت وسمعة حسنة. إلا أن هذا لا يمنع أن نرى الوجه الآخر من عمل هذه الحاجة. والحاصل أن من يحيا على نظرات الآخرين وتقديرهم إنما يرهن مصيره بهذه النظرات وهذا التقدير. وبهذا النوع من الرهن، يكون الإنسان قد وضع نفسه في حالة من التبعية لنظرات الآخرين وحُكمهم. وهذا ما تفعله الهيمنة الذكورية، كما يقول بيير بورديو، في النساء، فإذا تمكنت الهيمنة الذكورية من تحويل النساء إلى موضوعات رمزية، تكون، بذلك، قد أحكمت تبعيتهن لهذه الهيمنة بحيث تصبح النساء «موجودات بواسطة، ومن أجل نظرة الآخرين، أي بمثابة موضوعات مضيافة، جذابة وجاهزة، وننتظر منهن أن يكن «أنثويات»، أي مبتسمات لطيفات مجاملات خاضعات محتشمات متحفظات وحتى منزويات» (الهيمنة الذكورية، ص103)، فكل هذه المواصفات إن هي إلا «انتظارات ذكورية»، وهي انتظارات تعمد الهيمنة الذكورية إلى تحويلها إلى جزء أساسي في حياة النساء و»مكونة لكيانهن». وما تفعله الهيمنة الذكورية في النساء تفعله كل الهيمنات الأخرى في ضحاياها، فالأسياد يكوّنون انتظاراتهم من العبيد، وعلى الأخيرين أن يتصرفوا وفق هذه الانتظارات. وعلى الشاكلة ذاتها يكوّن كبار السن انتظاراتهم من الأطفال، وعلى الأطفال أن يلبوا انتظارات الكبار منهم، كما أن المجتمع يكوّن انتظاراته من أفراده، وعلى هؤلاء أن يتصرفوا وفق ما يُنتظر منهم.
ولكن، هل هذا مطلب واقعي حقاً؟ من ذا الذي بإمكانه أن يحظى باعتراف الآخرين، كل الآخرين، واحترامهم؟ ومن الذي يكون على استعداد لأن يرهن مصيره، وبتبعية محكمة، بنظرات الآخرين، كل الآخرين؟ بالتأكيد لا أحد، لكننا، في الغالب، نقنع بتقدير بعض هؤلاء الآخرين، وهم، في الغالب كذلك، أقاربنا وجماعاتنا وزملاؤنا وأصدقاؤنا والمهتمون بأمرنا، بل إن بعضنا ليكتفي، أحياناً، بأن يجد شخصاً واحداً يقدره ويهتم بأمره. وهذا يكفي ليشعر الواحد منا بقيمة وجوده، فـ»أنا محبوب، إذن أنا موجود» كما يقول الشاعر الأميركي ويستان هيو أودن. وإذا وُجِد من هو محروم من كل هذه العلاقات الاجتماعية المتفاوتة في قربها وحميميتها، فإن هذا لا يمكن أن يكون بشراً، وإذا كان بشراً فهو، كما يستنتج أرسطو، لا يعدو أن يكون «إنساناً ساقطاً» أو إنساناً ينتمي إلى ذلك «النوع الأسمى من البشر». وعرفنا، سابقاً، أن سرّ قوة هذين الاثنين إنما يكمن في كونهما لا يخضعان، كباقي البشر، لنظام الحاجة، فهما لا يحتاجان إلى أحد، ولا يتنظران منه نظرة أو التفاتة أو انتباهاً أو اهتماماً أو تقديراً. وعلينا هنا أن نضيف إلى هذين الصنفين صنفاً ثالثاً من البشر، وهو «المؤمن الحقيقي» المنقطع إلى الله، فهذا لا يبالي بنظرات الآخرين وتقديرهم لأنه على يقين تام بأن الله يراه وقريب منه ويحوطه برعايته مهما أمعن الآخرون في تجاهله أو تحقيره.
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 2867 - الإثنين 12 يوليو 2010م الموافق 29 رجب 1431هـ
نشر المحبة لا الكراهية!
ما هو الداعي، في ظل زيادة انقسام المجتمع البحريني المتواصل مذهبياً ومناطقياً، أفقياً وعمودياً، لإذكاء مشاعر الكراهية للآخرين وتعميقها وتبريرها
من خلال سلسلة هذه المقالات؟ المطلوب، كما اتصوّر، تقريب الناس بعضهم لبعض عن طريق نشر أفكار المحبة والتعاون والتسامح مع الآخر، من أجل وطن خال من الكراهية، ألم تظهر جريدة الوسط لأجل تعزيز هذه القيم ونشرها بين أبناء المجتمع؟!
مقال مميز لشخص مميز
تسلم يمناك يادكتور
حقاً لو لم يكون المكروه مهماً للكاره لما كان ان يدخله في تفكيره وكيفية اسقاطة
مقال مميزة لشخص مميز
هل يطلع الدكتور على تعليقات القراء؟
و اذا اطلع، فهل يستجيب لطلب، اوي يأنس لثناء؟ هل نستطيع التواصل معه اذا كانت لنا مداخلات؟ أو استفهامات؟
الرجاء التواصل
مع الشكر الجزيل
انت مبدع
انت مبدع وكاتب جميل.
انتقدتك في موقع ما في بداية السلسلة واعتذر اليك عن ذلك لأنك اثبت انك كاتب واكاديمي رفيع المستوى،غزير المعرفة.
نحن فخورن بك واتمنى ان يكثر الله من امثالك بيننا.
جعفر
عجبني
في مقال سابق لك .. قدحت كتابتك و حق لي اليوم أن أمدح لكي أكون منصفا / مقال شيق و ختامه رائع
عجبني
في مقال سابق لك .. قدحت كتابتك و حق لي اليوم أن أمدح لكي أكون منصفا / مقال شيق و ختامه رائع
موضوع جميل
مشكور يا نادر على النوضوع الجميل ونتظر المزيد أم سيد قاسم
شكر
شكرا يا نادر