حين يوصف أي نقاش يدور بين أكثر من طرف على أنه «حوار الطرشان»، فالمقصود بذلك أنه حوار غير مفيد ولا جدوى تنتظر منه، ولا يمكن أن يفضي إلى نتيجة منطقية. ويبدو أن مثل هذا الحوار هو القائم اليوم بين المعارضة، بمختلف ألوان أطيافها من جهة، والسلطة التنفيذية ممثلة بالعديد من مؤسساتها من جهة ثانية.
وصول هذا الحوار السياسي بين الطرفين إلى طريق مسدودة يعبر عن درجة عالية من الفشل في انتشال البحرين. وبقدر ما يعبر ذلك عن حالة مؤسفة من الفشل التي تنتاب العمل السياسي في المملكة، فهو يجسد نهاية منطقية للقوانين التي رسمت معالم العلاقة بين القوى السياسية البحرينية، على امتداد فترة زمنية تعود جذورها إلى منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، عندما أقدمت السلطة التنفيذية القائمة حينها، وبإيعاز من المستشار شارلس بلغريف على توجيه ضربة لهيئة الاتحاد الوطني، تمثلت في إلقاء القبض على قياداتها، والزجّ بهم في السجون، وتشتيتهم في المنافي.
بعد ذلك، وعوضاً عن تراجع السلطة التنفيذية عن سياساتها القمعية، وسلوكها، في تعاملها مع المعارضة السياسية، طريقاً أكثر ليونة، وجدناها تصعد من إجراءاتها التعسفية، وتمعن في أساليبها الانتقامية. تشهد على ذلك سياسة بدأت في منتصف الستينيات، ولم تتوقف حتى يومنا هذا، رغم تدشين المشروع الإصلاحي، واستبشار الناس خيراً به.
حالة الجفوة هذه، تتحمل مسؤوليتها أساساً السلطة التنفيذية، لكونها دوماً في خانة الفعل، في حين كانت المعارضة، مضطرة، لكونها في خانة ردة الفعل أن تدافع عن نفسها، وفي حالات معدودة، باللجوء إلى العنف، بعد أن تتوقف لغة الحوار.
سنحت فرصة استثنائية للخروج من مأزق حوار الطرشان غير المجدي هذا في منتصف السبعينيات، حين قبلت نسبة عالية من المعارضة المشاركة في مشروع المجلس الوطني، الذي وافقت عليه السلطة قبل سواها من القوى السياسية، ولم تمارس القوى الأخرى، ممن قاطعت المشاركة في الانتخابات أي شكل من أشكال العنف غير المشروع (ولسنا هنا بصدد تقويم مَنْ من أطراف المعارضة كان محقاً، ومن كان منها على خطأ، فهذا، ولتوخي الإنصاف في التقويم بحاجة إلى دراسة، وليس مقالة صحفية مقتضبة).
الملفت للنظر أن السلطة، حينها، لم تكتفِ بمعاقبة المقاطعين، والعمل على مكافأة المشاركين، بل شملت بسياستها التعسفية حتى تلك القوى التي وافقت، بناء على رؤيتها للواقع السياسي حينها، على المشاركة في المجلس الوطني. لم تتوقف آلة السلطة القمعية حينها عند حل المجلس وتعليق العمل بالدستور، بل عادت إلى ممارساتها القديمة، من اعتقالات ومطاردات وتوجيه تهم وهمية للمعارضة كي تبرر سياستها التعسفية ضدها، والتي توجتها بسنّ «قانون أمن الدولة»، الذي لم تستثنِ بنوده التعسفية، من وافق على خوض تجربة المجلس، ومن قاطعها، على حد سواء.
كان على المعارضة أن تواصل نضالاتها لما يزيد على ربع قرن من الزمان، في ظروف صعبة كانت تسير آليات عملها السياسي مواد «قانون أمن الدولة»، التي لم تفسح للمعارضة مجالاً لممارسة أي شكل من أشكال النضال الشرعي العلني. وكان عليها، أي تلك المعارضة، أيضاً أن تقدم المزيد من المعتقلين والمشردين والشهداء قبل أن تصل البحرين إلى المشروع الإصلاحي الذي نجح في انتشال البحرين من براثن «قانون أمن الدولة»، لكنه لم يكن بوسعه أن يمحو، وبجرة قلم، هذا التراكم التاريخي بين المعارضة والسلطة التنفيذية، خصوصاً أن الوجوه القيادية في الطرفين لم تتغير.
رحبت المعارضة بالمشروع الإصلاحي، وتفاعلت معه وشاركت في ترويجه داخلياً في صفوف جماهيرها، وخارجياً في أوساط المؤسسات العالمية والإقليمية ذات العلاقة. وإن كان ذاك قد أثلج صدور من كانت تبحث للبحرين من طريق يخرجها من نفق «قانون أمن الدولة» المعتم، فهو قد أحرج وأزعج من رأوا فيه، من بين صفوف السلطة التنفيذية، هزاً لعروش نفوذهم وتهديداً لمصالحهم التي بنوها على مدى خمسة وعشرين عاماً من عمر ذلك القانون.
لذا وبدلاً من أن تساعد مؤسسات السلطة التنفيذية المشروع الإصلاحي على مساعيه لانتشال المؤسسات السياسية، المعارضة والحكومة من حالة حوار الطرشان التي نسجها بينهم ذلك القانون، وجدناها تشرع في بناء جدار سميك أصم بينها وبين المعارضة يحول دون نقلها من حالة «الطرش» التي تسود علاقاتها، إلى مستوى الاستماع إلى بعضها البعض، وفهم أهداف بعضها البعض، كما أراد لذلك المشروع الإصلاحي.
لهذا عمدت تلك القوى، التي لا تستطيع أن تتنفس هواءً خالياً من ثاني أكسيد كربون قانون أمن الدولة السام، وتصر على رفض استنشاق أوكسجين المشروع الإصلاحي المنعش، على تكبير أي خطأ صغير قد ترتكبه بعض أطراف القوى المعارضة، وليس جسمها الأساسي، وتحويله، بعد تضخيم صورته، إلى مبرر يخوّلها العودة إلى ممارسات لا تختلف كثيراً عن تلك التي كانت تقوم بها في عصور قانون أمن الدولة. تضخيم تلك الممارسات «الشاذة» التي لا تقبلها نسبة عالية من المعارضة السياسية، كان القصد منه إيصال المشروع السياسي، تماماً كما أوصل المجلس النيابي في منتصف السبعينيات، إلى طريق مسدودة، واتخاذ ذلك كمبرر يبيح لتلك الدوائر الانقضاض على المعارضة، بما فيها تلك الغالبية التي وافقت على العمل تحت مظلة المشروع الإصلاحي، وانتقاده من الداخل، ومحاولة إصلاحه من الداخل أيضاً.
مثل هذا التوجه الذي يقف في وجه النقيض أمام المشروع الإصلاحي، ويحول أيضاً دون نمو معارضة شرعية تعمل في نطاق مواد الدستور، وتعمل على تطويره، لا يمكن لها أن تصل إلى محطة أخرى غير تلك التي توقف فيها قطار «حوار الطرشان» بين المعارضة والسلطة التنفيذية، منذ ما يزيد على نصف قرن من الزمان، الذي لا تتحمل المعارضة أية مسؤولية من استمراره.
على هذا الأساس، يطمح المواطن أن يرى من ينبري من بين صفوف السلطة التنفيذية، كي يمد يده نحو قوى المعارضة من أجل بدء حوار جاد وصادق معها، يضع حداً لحوار الطرشان الذي مايزال، رغم كل الرتوش التجميلية يحكم العلاقات بين السلطة التنفيذية والمعارضة.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2866 - الأحد 11 يوليو 2010م الموافق 28 رجب 1431هـ