ما الذي تبقى من هذه القرية الأثرية؟ هل بقايا النخيل وأشجار اللوز والباباي الفارعة كأهلها؟ أم تلك الجرَّة الكبيرة، والتي كانت تُستخدم في دلمون المتأخرة لحفظ العسل؟ أم ذاك الموقع الأثري، والذي اكتشفت فيه قبور هلنستية تعود إلى الفترة الواقعة ما بين 300 ق.م و200م؟!
لا نريد الذهاب بعيداً في الإجابة عن أسئلة قد يعتبرها الكثيرون ترفاً فكرياً، ولكن يبدو أن البعض قد تصالح مع مفهوم «فقدان البوصلة» عند تعاطيه مع موروثه الثقافي، فلا يزال البعض منا مستغرقاً في الجذور اللغوية لمسميات الأشياء، ولكن لو تأمل أكثر في مدلولاتها فإنه لا يقف حائراً أمام مسمى «جنوسان»، إذ يشكل نقطة التقاء ـ اتفق المؤرخون على ذلك أم اختلفوا ـ بين ما هو عربي وأعجمي، بين من يعتقد بأن جنوسان بمعنى «جَنَّةُ الإنسان»، وآخر يرى بأنها كلمة مركبة من (جِنٍّ وإنس)!
ولكن المساحة التي قد نتفق عليها بأن «جنوسان» كانت أحد موائل الحضارة الإنسانية القديمة، وأضحت اليوم حاضنةً للإبداع، في الوقت الذي بدأتُ أستعيد شريطاً جميلاً من الذكريات التي تعود بي إلى حقبة التسعينيات من القرن الماضي، وتحديداً في جامعة البحرين، مع نخبة من الشباب المتميِّزين المنفتحين على عالم المعرفة من تلك القرية، فكانت تلك هي البداية.
أؤمن بأن السعادة بالقصد، كما ذكر الكاتب السيد الهادي في كتابه «سعداء بالصدفة معذبون بالوراثة»، فالتعاسة ـ حسب توصيفه ـ مخلوق شاذ يتكاثر من الأمام، مثلما يتكاثر من الخلف، والمأساة أن تصبح أحد الأعضاء الدائمة للجسد.
لم يكن من قبيل المصادفة عندما قرأتُ خبراً قبل فترة وجيزة في صحفنا المحلية وبعض وسائل الإعلام في دبي عن تكريم طالب بحريني بالمرحلة الإعدادية، بمناسبة فوزه بالمركز الأول في دراسةٍ جغرافيةٍ أعدَّها مرفقاً بالصور والأرقام والمقابلات الشخصية، عن معالم «قرية جنوسان» وآثارها وبيئتها وتاريخها وحاضرها وغيرها، في جائزة الشيخة لطيفة بنت محمد بن راشد آل مكتوم لإبداعات الطفولة في الموسم الخليجي السادس 2009 - 2010م.
هذه الجائزة التي تهدف إلى توجيه الجهود لتنمية ملكات الإبداع لدى الأطفال، وتشجيع المنافسة البناءة بينهم في مختلف المجالات والأنشطة، وإيجاد المناخ المحفز لهم على الإبداع، وتشجيعهم على التفكير العلمي الموضوعي والإبداعي منذ المراحل الأولى للتنشئة الاجتماعية.
ما أود التركيز عليه هو أن الإنجاز الذي حققه الطالب علي إبراهيم خميس حمادي يؤكد وبشكل لا يدع مجالاً للشك بأن قطار التعليم يسير في الاتجاه الصحيح، لماذا؟ لأن حصول الطالب على المركز الأول في هذه الجائزة من شأنه أن يعزز «ثقافة المبادرة» لدى أطفالنا، من خلال الاستثمار الأمثل للطاقات والإبداعات البحرينية الناشئة والواعدة، القادرة على التنافس لنيل المراكز المتقدمة، وذلك يتطلب اهتماماً مجتمعياً، رسمياً وأهلياً، كما أن هذا الإنجاز يشير إلى أننا مصرون أكثر من أي وقت مضى على الانتقال الفعلي من «مرحلة التعليم» إلى «مرحلة التعلُّم»، وهي المرحلة الأكثر تطوراً، فهذه المشاركة من شأنها توظيف مهارات الطالب وتشجيعه وتدريبه على كيفية الأخذ بالمنهجية العلمية في البحث، بدلاً من الإصرار على تبني استراتيجية «تعليم المقهورين» على حد توصيف الكاتب البرازيلي باولو فريري، والمرتكزة على تلقي المعلومات مباشرة من المعلم وحفظها واستظهارها، في الوقت الذي يبرز دور التعليم الخاص في الدفع قدماً نحو تفعيل مبادرات إصلاح التعليم، جنباً إلى جنب التعليم في القطاع الحكومي، من خلال دعم وتوجيه الطلبة نحو إيجاد نوع من التوأمة ـ إن صحَّ التعبير ـ بين الأصالة والعصرنة، بين اعتزاز المتعلم بتراثه وتاريخه ولغته وأصالته من جهة، والأخذ بالعلوم والمعارف الحديثة من جهة أخرى، وخصوصاً أن الفائز طالب في وحدة تعليمية خاصة، والدراسة التي قام بإعدادها كُتبت باللغة العربية، في الوقت الذي يشتكي بعض أولياء الأمور في المدارس الخاصة من وجود ضعف في مستوى التحصيل الدراسي في المواد التي لها صلة مباشرة باللغة العربية وتوابعها. علاوة على ذلك فإن البحث الذي قدَّمه الطالب جاء من وحي بيئة ارتبطت به وبعائلته التي تنتسب للقرية المذكورة، ما أكسب البحث مصداقية أكبر.
كم هو جميل أن تحتفي البحرين بمثل هذا الطالب، بحيث يتم تعميم مثل هذه التجربة المضيئة، لجعل الإبداع أو التميُّز لدى الطلبة في مؤسساتنا التعليمية بمثابة الظاهرة، التي تعكس حقيقةً مفهوم «التعليم للجميع»، وليس فقط على مستوى مبادرة فردية هنا أو مبادرة فردية هناك، تماماً كما هو حاصل في التجربة اليابانية. فقد سأل أحد الزائرين لصفوف التعليم الأساسي بالمدارس اليابانية عن المعايير التي من خلالها يتم التعرف على الطالب المتميز أو الموهوب أو المبدع في الصف، فأجابه المعلم الياباني: «عندما نكتشف طالباً موهوباً أو مبدعاً فإننا نعمل على أن يصل أقرانه في الفصل إلى مستواه، لضمان أعلى درجات التنافسية»!
ليس كل سقوط نهاية ـ كما تقول الحكمة اليابانية ـ فسقوط المطر أجمل بداية! نعم... ها قد سقط مطر جنوسان، لذا كان الحب من النظرة الثانية!
إقرأ أيضا لـ "فاضل حبيب"العدد 2864 - الجمعة 09 يوليو 2010م الموافق 26 رجب 1431هـ
المحامية ايمان
هكذا هي جنوسان منبع الاصالة والتنوع والانجاز نعم هي جنة الانسان بأهلها .. وجمالها ..
نعم هي جنوسان كانت ولا زالت تحمل تاريخ الحضارة ..
دمتي لي موطنا اعتز فيه ..
برباري
السلام عليكم ورحمة الله
لا فظ فوك أخي الكاتب، مقال جميل جداً ومعبر.
تقبل دعائي لك بالخير