العدد 286 - الأربعاء 18 يونيو 2003م الموافق 17 ربيع الثاني 1424هـ

الإصلاح القضائي

فريد المفتاح comments [at] alwasatnews.com

.

يتبادر إلى الذهن وللوهلة الأولى سؤال عن العلاقة بين التنمية البشرية أو الإنسانية أيا ما كانت التسمية، وبين الاصلاح في شتى صوره وخصوصا الإصلاح القضائي، أو بمعنى أدق وأشمل اصلاح النظام القضائي.

والذي يظهر أن المفهومين متلازمان، يكمل أحدهما الآخر، إذ لا يعقل وجود تنمية بشرية حقيقية وفاعلة ومنتجة ومستقرة من دون وجود اصلاح على جميع الاصعدة وفي شتى الميادين، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والقانونية والقضائية، بل وحتى الشرعية والدينية، لأن الشريعة في كثير من جوانبها، وخصوصا الفقهية والاجتهادية، قابلة للتجديد والتطوير والتقنين ومسايرة الواقع، لتميزها بالصلاح لكل زمان ومكان، غير أن ذلك - أعني تقنين الشريعة - شأن مختص بالفقهاء والعلماء أصحاب الاختصاص دونما سواهم. وكل ذلك له علاقة وثيقة بالتنمية البشرية. ومملكتنا بحمد الله تتمتع وتزخر بهذه التنمية الانسانية، وتلك ميزة وخصيصة تضاف الى المشروع الاصلاحي العام الذي شرعت فيه البلاد والتي تدل على وعي قادتها وحنكتهم وحكمتهم حفظهم الله تعالى، في تنظيم شئون البلاد.

وما من شك فإن التنمية البشرية تقوم على تحسين قدرات الانسان ورفع مستوى أدائه وتنقية خياراته، وتوسيع آفاقة ومشاركته في صنع القرارات التي تمس حياته، وتمتعه بالعدالة والمساواة في ممارسة حقوقة الاساسية، وهي تعمل على تحقيق رفاهيته.

والاصلاح بمفهومه العام والشامل يعني أيضا تحسين قدرات أنظمة المجتمع سواء الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي أو القانوني أو القضائي، عن طريق رفع انتاجية العاملين فيها والقائمين عليها، ثم الصعود في سلم الانجازات إلى أعلى الدرجات لمواكبة التطور والانفتاح ومواجهة التحديات وحل المشكلات واحتواء تدني الانتاجية.

والاصلاح القضائي - وخصوصا القضاء الشرعي - كأحد هذه الأنظمة يهدف إلى إيجاد مؤسسات قضائية شرعية مستقرة في وجودها مضيئة في انتاجيتها فاعلة في أدائها، راقية في تعاملها، وتحقق عدالة قادرة على تطبيق القانون بحكمة وسرعة ويسر وشفافية، وحتى يتحقق هذا الاصلاح القضائي، وخصوصا الشرعية، لابد أن يرتكز على عدة قواعد اساسية من أهمها:

أولا: السعي وبصورة جادة وسريعة من أجل استصدار قانون لاحكام الأحوال الشخصية، يضبط مسار المحاكم الشرعية، وينظم العلاقة بين القاضي والخصوم أو اصحاب الدعاوى أو من ينوب عنهم من محامين وغيرهم، وحتى يعرف كل ما له وما عليه في وضوح ويسر وسهولة، وفي أخصر وقت، غير ان ذلك التقنين الذي ننشده لابد وأن يكون مؤصلا ومقعّدا على نصوص الشريعة السمحاء ومقاصدها الغراء، كما أنه لابد وأن يلاحظ فيه أن يكون على منهج الفقه المقارن، من غير التزام بتقليد مذهب فقهي معين دونما سواه، حتى يستفاد من جميع المذاهب الاسلامية ويتخير من أقوال وآراء فقهائنا وعلمائنا الأوائل والأواخر بما يتناسب وحاجات العصر ومعطيات الواقع المعاصر ومشكلات الزمن الحاضر، على غرار ما هو معمول به في عدة دول عربية واسلامية نذكر منها على سبيل المثال دولة الكويت الشقيقة، التي اختطت هذا النهج - نهج الفقه المقارن - في وضع قانون الأحوال الشخصية. وكفانا مهاترات ومزايدات في الصحافة وغيرها التي يثيرها البعض بأسلوب فج سواء ضد القضاة الشرعيين أو غيرهم من رجالات المجتمع، لأن أسلوب التحدي والتشفي الذي يتعامل به البعض في الصحافة لا يخدم ولا يعين ولا يعين على حل المشكلة بصورة حقيقية وفاعلة، بقدر ما يعين على تكريس المشكلة ويزيد من تفاقمها، وينشىء صراعات نحن في غنى عنها، وقد لا يكون أولائك القضاة طرفا في هذا الاشكال، فرغبة التقنين واصلاح القضاء الشرعي، هي هدف وطموح يسعى له كل الناس وفي مقدمتهم القضاة من غير نكير. لذلك لابد أن يتعاون ويتكاتف الجميع مع الجهات المختصة لاحتواء هذه القضية بصورة حضارية بناءة متجنبين النيل من سمعة بعضنا، والاساءة الى مؤسسات مملكتنا الرسمية، من أجل ايجاد هذا القانون المرتقب والذي أصبح ضرورة حتمية لا مناص من تشريعه وإقراره. فإما أن نعمل جادين من أجل ايجاد هذا القانون وإلا فإنه حتما سيفرض علينا ولكن من جهات أخرى وقد لا يكون لنا - نحن الشرعيين - خيار فيما بعد لرده أو الاعتراض عليه، لذلك ينبغي ان نتعاون لاحتواء هذه المعضلة الآن ونجد لها حلا مناسبا قبل أن تخرج من أيدينا، بسبب انشغالنا بأمور جانبية لا تخدم بصورة فاعلة في حل القضية.

وإذا كان لدى بعض المعترضين على التقنين تخوف وتوجس من أن يتدخل في تقنين الاحكام الشرعية أناس ليسوا من أهل الاختصاص الشرعي فمن الممكن التغلب على هذا المحذور بتشكيل لجنة دائمة تسمى لجنة الفتوى والتشريع أو تحت أي اسم آخر، تضم عددا من القضاة والعلماء والقانونيين المشهود لهم بالفقه والعلم والمعرفة، تتولى مهمة وضع بنود مشروع القانون، ويستمر عمل هذه اللجنة فيما بعد لبحث ومراجعة أي تغيير أو تطوير يطرأ لبعض مواد القانون في المستقبل. وعندما تستكمل هذه اللجنة وضع القانون يحال إلى مجلسي الشورى والنواب للتصويت عليه بالاقرار أو الرفض من غير التدخل في مناقشة جزئياته ومواده لأن ذلك من اختصاص لجنة الفتوى والتشريع، ولا بأس من ابداء الرأي فيه بذكر ملاحظات وتنبيهات من قبل أعضاء مجلسي الشورى النواب، إذا اقتضى الأمر على أن تنظر وتراجع من قبل اللجنة قبل اقرارها. وبهذه الكيفية تتوزع المهمات وننأى بالقانون عن أن يتدخل فيه ممن هو ليس من أهله وبالتالي نتلافى هذا التخوف.

ثانيا: العمل على تأهيل وتدريب القضاة أو مساعديهم أو للمهن اللصيقة بهم، وكذلك تسهيل وتيسير الحصول على الحقوق بالمحاكم، والاعتماد على التكنولوجيا والمعلوماتية القانونية والاتصالات، واستثمار النظريات الحديثة في القضاء مثل، البصمة الوراثية، و«DNA»، وتبسيط القوانين والقواعد القانونية وأخيرا صيانة استقلال القضاء واحترامه وتقديره وتوقيره للحفاظ على هيبته وسلطانه. إذا يتضح من ذلك أن التأهيل هو أحد المحاور الرئيسية المهمة في عملية اصلاح النظم القضائية، وأنه لا يمكن أن يكون هناك اصلاح بغير التدريب، ورفع مستوى اداء القاضي وكفاءته وأن ذلك من شأنه ان يعزز مكانته ودوره في تحسين رسالة القضاء، بل إن تحديث اساليب العمل القضائي ومواكبة التطور ومجاراة التحديث والتجديد ومواجهة التحديات والتحولات القضائية والقانونية في العالم المعاصر من شأنه أن يعزز استقلال القضاء ويحسن سبل الوصول الى العدالة. وقد أحسن صنعا المجلس الأعلى للقضاء برئاسة عبدالرحمن بن محمد بن راشد آل خليفة، حينما نظم عدة دورات تدريبة لعدد من القضاة المدنيين، وكان آخرها انتداب مجموعة من القضاة الشرعيين والمدنيين للسفر الى دولة الكويت الشقيقة لحضور دورة قضائية وقانونية مكثفة تتضمن محاضرات نظرية في علم المرافعات والمحاكمات، وزيارات ميدانية لمحاكم الكويت للافادة منهم والاطلاع عن كتب على سير القضاء هناك وتبادل الخبرات، وتعتبر هذه الدورة - والتي نرجو أن تعقبها دورات أخرى لدول عربية وأوروبية لكسب الخبرة - خطوة رائدة تصب في عملية اصلاح النظام القضائي والارتقاء به الى مستويات عالية تواكب التطور والتحديث وتعمل من أجل تحسين أداء القضاة وتأهيلهم واطلاعهم على كل ما هو جديد حتى يكونوا على علم ودراية بفنون القضاء ويحققوا مستوى راق ومشرف لتولي هذه المهمة الدقيقة والحساسة، علما بأن قضية التدريب والتأهيل أضحت حقيقة وقد تنبهت لها الدول المتقدمة في المجالين القانوني والقضائي، واعتمدت عليها في النقلة النوعية والفنية التي وصلت إليها في هذين المجالين، واتجهت منذ أمد إلى انشاء معاهد التدريب القضائي والقانوني، وجعلت الولوج الى الوظيفة القضائية عبر هذه المعاهد. وأخيرا نوجه دعوة إلى المسئولين في هذا البلد الحضاري الطموح أن يعملوا من أجل انشاء معهد للدراسات القضائية والقانونية، يحمل على عاتقه تنفيذ مشروعات الاصلاح القضائي، على أن يكون من أولويات مهماته تأهيل القضاة وأمناء السر والكتاب والعاملين في السلك القضائي، حتى يكونوا على وعيٍ ودراية ومواكبة لكل ما يدور حولهم في العالم في علم القضاء ومهارات فن التقاضي

العدد 286 - الأربعاء 18 يونيو 2003م الموافق 17 ربيع الثاني 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً