قبل يوم من بدء أعمال قمة مجموعة العشرين في تورنتو (كندا) أعلن «بنك إنكلترا» في تقريره الشهري أن عجز الموازنات العامة للدول الصناعية وديونها السيادية يبلغ 14 تريليون دولار أي ما يعادل دورة الإنتاج السنوية للاتحاد الأوروبي. ويشكل الإعلان خطوة مهمة قد تؤثر على التوجهات الأميركية التي تراهن على وضع خطة إنعاش اقتصادية تسمح بتجاوز الأزمة التي انفجرت عالمياً في العام 2008.
اختلاف التوجه الأوروبي عن الأميركي المدعوم من كندا واليابان قد يعرض دول اتحاد القارة إلى ضغوط من واشنطن التي ترفض سياسة التقشف التي تقتضي إجراءات تؤدي إلى خفض الإنفاق العام وزيادة الضرائب ورفع الرسوم ما يضعف وتيرة النمو بسبب احتمال تراجع الطلب الداخلي على الشراء والاستهلاك.
التعارض الأميركي - الأوروبي في التعامل مع الأزمة المالية يرجح أن يتواصل لأن مصلحة الولايات المتحدة تتطلب من إدارتها استمرار التوسع العالمي في النمو حتى يستطيع اقتصادها التخلص من الصعوبات التي يواجهها في الداخل (ارتفاع البطالة، إفلاس الشركات المالية، نمو التضخم) بينما مصلحة الاتحاد الأوروبي تتطلب من دولها التركيز على إنقاذ الاقتصادات المتهالكة التي تعاني من ضعف بنيوي وعدم قدرة على مواكبة النمو المتسارع في الاستهلاك الذي يعزز عجز الموازنات ويرفع فاتورة التبادل التجاري الحر والمفتوح على السوق القارية.
اختلاف المصلحة بين طرف يطالب الأسواق الدولية بمساعدته لتمرير أزمة عالمية لا تستطيع الولايات المتحدة احتواء تفاعلاتها وتداعياتها من دون أن تتلقى الدعم من استمرار النمو الذي يمتص فائض الإنتاج ويعيد تدوير الرساميل من خلال اعتماد خطة إنعاش (بذخ وترف وإنفاق) وبين طرف يرى أن استمرار الإنفاق لا يساعد على الإنعاش الاقتصادي وإنما يؤدي إلى تضخم الأسعار وتوريط الدول في عجز تجاري يؤدي إلى تراجع النمو ودفع القوى المتضررة إلى ساحات العنف والاضطراب.
الاختلاف في وجهات النظر الاقتصادية لا يعني خلافاً سياسياً على القيادة والزعامة بقدر ما هو يعكس معطيات واقعية أخذت تنزلق إليها دول الاتحاد الأوروبي بعد انفجار أزمة ديون اليونان واحتمال تورط إيطاليا وإسبانيا والبرتغال في المشكلة نفسها. فهذه الأزمات تشكل حلقات مترابطة في السلسلة الأوروبية ما سيؤدي في حال تواصلها إلى زعزعة استقرار القارة وإضعاف اقتصادات الدول القوية (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا). فالضعيف في القارة يمكن أن يهز أركان القوي إذا لم يسارع إلى اعتماد التقشف وخفض النفقات وزيادة الضرائب والرسوم على السلع لتعزيز الموازنات وتحسين الإيرادات ورفد الصناديق السيادية بالاحتياطات النقدية والحد من العجز في ميزان المدفوعات وفاتورة التجارة.
أميركا تنظر إلى الأزمة المالية من موقع مخالف للاتحاد الأوروبي. فهي من جانب تطالب دول العالم بالإصلاح الجماعي وتراهن من جانب آخر على خطة مشتركة لتعزيز الإنعاش الاقتصادي الذي يتكفل بإنهاء مشكلة البطالة وتدوير الرساميل بين قطاعات الإنتاج وأسواق الاستهلاك.
أيهما أفضل التقشف الأوروبي أو الإنعاش الأميركي؟ الجواب سيخضع للتفاوض والمساومة اليوم في قمة العشرين في تورنتو. فهذه القمة التي تجمع دول الشمال والجنوب يمكن لها أن تشكل ذلك الملاذ الآمن لاقتصادات أشبعت بالتخمة مقابل اقتصادات نامية تضغط للتوسع حتى يتوازن فائض المال مع حاجات السوق وقطاعات الإنتاج. ومراهنة الرئيس الأميركي باراك أوباما على خطة الإنعاش الدولية تبدأ من مصلحة الولايات المتحدة لأنها ستأتي بمردود إيجابي على اقتصادها لما توفره من فرص لتصدير الفائض وامتصاص البطالة وتحسين الموارد المالية.
هذه الخطة الإنعاشية الأميركية تتعارض مع نهج دول الاتحاد الأوروبي التي اتخذت إجراءات تقشفية لخفض النفقات على موازنات تعاني من العجز وتراكم الديون التي وصلت بحسب تقدير «بنك إنكلترا» إلى 14 ألف مليار دولار وهو رقم هائل الأصفار وقابل للتضخم والانفجار وتوريط القارة بمشكلات اجتماعية ممتدة ومتنقلة.
هل تكون الموازنات الأوروبية المتقشفة هي الحل أم احتمال التسوية مع الخطة الأميركية سيكون هو المخرج الثالث بين تعارضين؟ مصدر رسمي ألماني حاول التخفيف من الأزمة حين قلل من إمكانات حصول مواجهة أميركية - أوروبية في قمتي «الثماني» و«العشرين» بعد تلك المكالمة الهاتفية الإيجابية بين أوباما والمستشارة إنجيلا مركل. المكالمة الهادئة قد تساعد على تدوير حدة الأزمة لكن المشكلة المتفاقمة ستبقى مستمرة وهي تؤشر إلى نموها واحتمال دخولها منعطفات اجتماعية حادة في القارة الأوروبية.
ألمانيا وفرنسا وبريطانيا ترفض مجتمعة حتى الآن خطة الإنعاش الأميركية التي تفضل العجز المالي على نهج التقشف. فالإنفاق برأي واشنطن يساعد على النمو الاقتصادي في الدول الصناعية بينما أوروبا ترى أن خطة التقشف والامتناع عن سياسة الدعم الحكومي للمصارف والشركات الخاصة يوفر المال ويخفف من عجز الصناديق السيادية.
بين أوروبا والولايات المتحدة تبدو دول الجنوب الداخلة حديثاً إلى المجموعة الدولية التي استحدثت على عجل حين انفجرت الأزمة المالية مرتبكة في اختياراتها بين خطة الإنعاش (الإنفاق) وخطة التقشف (التوفير). فهذه الدول المضافة أصبحت الآن جزءاً من المعادلة الدولية النامية باتجاه إعادة هيكلة خريطة التوازن بين الشمال والجنوب، ولكن الدخول لا يعني أنها أخذت موقعها المستقر في استقطابات اقتصادية بدأت تشهدها الدول الواقعة على ضفاف المحيط الأطلسي بين شرقه الأوروبي وغربه الأميركي
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2851 - السبت 26 يونيو 2010م الموافق 13 رجب 1431هـ