أصبح سؤال المسئولين الأميركين عن مكان أسلحة الدمار الشامل في العراق من الأسئلة المحرم طرحها. وكان هذا واضحا خلال الزيارة الأخيرة التي قام بها دونالد رامسفيلد إلى جنوب ألمانيا اذ شارك في حفل بمناسبة مرور عشر سنوات على تأسيس مركز مارشال وهو مركز تموله ألمانيا والولايات المتحدة عبارة عن أكاديمية للتأهيل الأمني السياسي لجماعات من العسكريين والسياسيين غالبيتهم من أوروبا الشرقية. يعود اسم المركز إلى جورج مارشال وزير خارجية الولايات المتحدة الذي وضع العام 1945 خطة إعادة تعمير أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. لدى سؤال رامسفيلد عن القضية التي قد تنهي الحياة السياسية للرئيس الأميركي جورج دبليو بوش وتطيح بإدارته، أين مكان أسلحة الدمار الشامل في العراق؟ أجاب رامسفيلد مستنكرا السؤال: إننا لم نجد صدام حسين بعد، لكن ليس لدينا شك بأنه كان موجودا. على رغم الجهود التي يبذلها الأوروبيون، خصوصا في موسكو وباريس وبرلين، لترطيب العلاقات مع واشنطن، يبقى السؤال: أين هي أسلحة الدمار الشامل في العراق. فقد استخدم بوش هذه الأسلحة ذريعة لشن حرب العراق وحاول جر مجلس الأمن الدولي للموافقة عليها وقدم ما وصف بأدلة على أن هذه الأسلحة تهدد أمن دول العالم. منذ البداية كان ما وصف بالبرنامج العراقي لإنتاج أسلحة الدمار الشامل، وسيلة استخدمتها واشنطن منذ بداية الأزمة العراقية بجمع تحالف دولي في صفها لمواجهة العراق واعتمدت بداية على تصريح أدلى به هانز بليكس رئيس المفتشين التابعين للأمم المتحدة حين قال بتاريخ 27 يناير/ كانون الثاني الماضي أمام مجلس الأمن الدولي أنه لا يملك أدلة على أن العراق دمر بقايا أسلحة الدمار الشامل. والمعروف أن المفتشين الدوليين عملوا في التسعينات بإفناء كميات من غاز الخردل والأنثراكس وغاز الأعصاب(سارين). وحين باشرت واشنطن حملتها الهادفة لتغيير النظام في العراق، صرح نائب الرئيس الأميركي، ديك تشيني قبل ثمانية اشهر على اندلاع الحرب، أنه لا يشك بوجود هذه الأسلحة. لكن تشيني لم يفصح عن تفاصيل محددة. واتهم بليكس من وصفهم بالأوغاد في وزارة الدفاع الأميركية بنقل معلومات خاطئة لأجهزة الإعلام. لقد كان واضحا أن تأليب العالم على العراق يتم من خلال زرع الخوف في نفوس البشر وخصوصا المواطنين الأميركيين.
وجاء في تقرير لصحيفة «زود دويتشه» الصادرة بمدينة ميونيخ أن وكالة استخبارات الدفاع التابعة لوزارة الدفاع الأميركية قدمت تقريرا لم يثر اهتمام الصقور في البيت الأبيض وواشنطن. جاء في هذا التقرير أنه ليس هناك أدلة ثابتة عن إنتاج العراق أسلحة كيماوية أو أنه يخفيها كما ليس هناك منشئات لإنتاج هذه الأسلحة أو وجود نوايا لإقامتها. بعد وقت قصير على إخفاء هذا التقرير في الدرج، صرح وزير الدفاع الأميركي أن العراق يحوز على كميات كبيرة من الأسلحة الكيماوية والبيولوجية. قبل وقت قصير اعترف بول ولفوفيتز نائب وزير الدفاع الأميركي بأن أسلحة الدمار الشامل المزعومة، كانت أقل الأسباب شأنا التي تم طرحها للحصول على تأييد أعضاء إدارة بوش للحرب. وفقا لما ذكره توماس فريدمان المعلق في صحيفة «نيويورك تايمز» هناك ثلاثة أسباب أخرى للحرب: السبب الوجيه: إقامة دولة عصرية في العراق. السبب المعنوي: الإطاحة بنظام مجرم. السبب الحقيقي: أن الولايات المتحدة كانت تصبو بعد حوادث الحادي عشر من سبتمبر إلى ضرب دولة في العالم العربي الإسلامي.
كان قرار الحرب يحتاج إلى أدلة ولم يكن مهما أن تكون هذه الأدلة صحيحة. وقد كان الشغل الشاغل لجورج تينيت مدير وكالة الاستخبارات المركزية(سي آي إيه) أن يجمع المعلومات التي تخدم هدف بوش في ضرب العراق. وكان بوش الصغير قد عين تينيت مديرا للسي آي إيه في يناير العام 2001 بعد أن استعان بوالده الرئيس الأسبق الذي نصحه بضم تينيت الذي عمل خلال عهد بوش الأب في لجنة الاستخبارات التابعة لمجلس الشيوخ الأميركي. سرعان ما أصبح سيد البيت الأبيض يعتمد على التقارير اليومية التي يقدمها على مائدة الإفطار ويقول المراقبون ان هذا لعب دورا رئيسيا في دعم حملة الإدارة الأميركية بهدف القيام بعمل عسكري ضد العراق. ولكن هل المعلومات التي قدمتها السي آي إيه صحيحة أم أنها كانت من وحي خيال مصادر تحوم حولها أكثر من علامة استفهام؟
من وحي الوضع القائم هناك احتمال أن تكون المعلومات التي قدمتها الاستخبارات الأميركية تم استخدامها بطريقة لتخدم أهداف سياسية أو أن هذه الأجهزة رضيت أن تعمل في خدمة هذه الأهداف. فقد تم التلاعب بالحقائق وإخفاء معلومات وتزويرها كي تساعد في الترويج بأن العراق يملك أسلحة فتاكة وأن هذا البلد الذي صورته تصريحات المسئولين الأميركيين بأنه عبارة عن مصنع لإنتاج أسلحة الدمار الشامل لأن هذا التلاعب بالمعلومات كان يتفق تماما مع خطط الصقور في واشنطن. وتقول جين هارمان التابعة للحزب الديمقراطي المعارض في الكونغرس: كل ما حصل يوحي بأننا كنا ضحية عملية تلاعب ليس لها مثيل شاركت فيها أجهزة الاستخبارات. لقد أحست أجهزة الاستخبارات الأميركية بعد الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول أن فرصة نشأت أمامها كي تحصل على أموال ونفوذ. هناك أكثر من اثني عشر جهازا وكل عام تنفق واشنطن عليها نحو 30 مليار دولار. وقام رامسفيلد خلال العامين الماضيين بتكليف السي آي إيه بواجبات تزيد كثيرا عن السابق. بعد الحادي عشر من سبتمبر تم إنشاء لجنة عمل في وزارة الدفاع الأميركية تعمل في مهمة محددة: العراق. وكان عملها يقضي بمراجعة تقارير السي آي إيه عن العراق.
قبل وقت نقل عن مستشار في وزارة الدفاع قوله: لقد واجهت السي آي إيه الفشل فيما يتعلق بالعراق. لم تعرف السي آي إيه الكثير. بعد انسحاب المفتشين التابعين للأمم المتحدة من العراق العام 1998 لم يعد لديها مصادر للمعلومات داخل العراق. لم يكن هذا غريبا إذ بالكاد كان هناك عملاء تابعون لها في أنحاء العالم واكتفت بصور التقطتها الأقمار الصناعية للصحراء العراقية ومعلومات مختلقة عما تحتويه هذه الصور. لكن السي آي إيه اكتشفت أنه يمكن الحصول على ما تحتاجه من معلومات بواسطة العراقيين في المنفى ولاسيما الأشخاص الذين قدمهم المجلس الوطني العراقي على أنهم كانوا يعملون في السابق في المخابرات العراقية والجيش ومؤسسات الدولة حتى في برنامج صنع قنبلة نووية. قال هؤلاء ان صدام حسين أخفى قنبلتين في الصحراء وأن العراق يملك أسلحة كيماوية وترسانة ضخمة من الأسلحة الفتاكة، مصنع فوق مصنع وجميعها تحت الأرض وإلا لكان بالوسع تصويرها. كما ذكرت مواطنة عراقية نجحت في اختبار جهاز الكذب أن صدام حسين يسمع موسيقى ريتشارد فاغنر وفي الصباح يصرخ: عاش هتلر.
كل هذه المعلومات كانت تتجمع في مطبخ الإدارة الأميركية من دون الاهتمام بصحتها. وحين طلب من الولايات المتحدة تقديم ثبوتات عن وجود صلة بين العراق ومنظمة (القاعدة) فشلت استخبارات القوة العظمى في تقديم ثبوتات مثلما فشلت حتى اليوم في التوصل إلى مكان أسلحة الدمار الشامل المزعومة. لقد كان الضغط على السي آي إيه كبيرا. وكان نائب الرئيس الأميركي يزور مقر الجهاز في لانغلي قرب واشنطن بصورة دائمة بحثا عن معلومات جديدة وفي نهاية المطاف لا يصدق موظفو الاستخبارات الأميركية أنفسهم المعلومات التي قدمها بوش للرأي العام عن حيازة العراق أسلحة الدمار الشامل.
هل حصلت الإدارة الأميركية على معلومات خطأ من أجهزة الاستخبارات أم أنها قدمت للرأي العام معلومات خطأ عن أسلحة العراق؟ في كلتا الحالتين لا تبدو الأمور في صالح بوش الطامح للفوز بولاية ثانية في البيت الأبيض. أربع لجان تحقيق على الأقل تحاول الآن التوصل إلى إجابة على السؤال: لماذا فشل الجنود والخبراء الأميركيون حتى اليوم في التوصل إلى مكان الأسلحة المزعومة وذلك بعد مضي عامين على الإعلان رسميا على نهاية الحرب. سيزداد قلق الرئيس بوش أكثر إذا قررت لجنة الدفاع ولجنة المخابرات التابعتان للبرلمان الأميركي التحقيق عن هذه المسألة وسيكون لذلك عوارض مثيرة للقلق لأن عمليات الاستجواب تنقلها وسائل الإعلام مباشرة على الهواء كما تحتاج إلى بضعة أشهر وهذا سيؤثر سلبا على حملة بوش للفوز بولاية جديدة ومن يدري قد تكتب حرب العراق نهاية العمل السياسي لجورج دبليو بوش
العدد 285 - الثلثاء 17 يونيو 2003م الموافق 16 ربيع الثاني 1424هـ