يدور صراع مبطن، يطفو على السطح بين الحين والآخر، بين السلطة التنفيذية في البحرين، وبين قوى المعارضة حول حضور كل منهما في قيادات منظمات المجتمع المدني. ولعل الحوارات التي أثارها مرسوم تشكيل «المنظمة الوطنية لحقوق الإنسان»، عكس جانباً ملموساً لأوجه معينة من جوانب ذلك الصراع بين الطرفين.
على نحو موازٍ يكثر ورود تعبيرات «المجتمع المدني»، و«منظمات المجتمع المدني» في الكثير من البيانات الصادرة عن مختلف القوى السياسية البحرينية. ومن يدقق بعض الشيء في تلك الأدبيات، يلمس بعض الغموض، أو ربما شيئاً من الاختلاف غير الواضح في استخدام للتعبيرين.
أهمية تلمُّس هذا «الغموض»، إن جاز لنا القول، هو الاختلافات التي تبرز عند الحديث عن دور تلك المنظمات في العملية السياسية، إلى جانب دورها الرئيسي في القضايا الاجتماعية والحقوقية. ومن هنا تبرز اليوم حاجة ملحة من أجل التوصل إلى اتفاق، حول دورها في العملية السياسية، أن نحدد ولو بشكل عام، مفهوم كليهما.
التسلسل المنطقي، يفرض علينا، أن يسبق تحديد مفهوم «منظمات المجتمع المدني»، الاتفاق على ماهية «المجتمع المدني»، الذي يفترض فيه أن يحتضن تلك المنظمات ويرعاها. وقد يندهش البعض منا حين نكتشف أنه مايزال هناك اختلافات حول تحديد المفهومين، في اجتهادات العديد من الكتاب والباحثين العرب، ومن ثم فالحالة البحرينية ليست استثناء.
فلاح شفيع من راديو «دجلة»، على سبيل المثال، يحاول أن يرجع تاريخ نشوء مفهوم المجتمع المدني إلى الفكر اليوناني الإغريقي، ويستشهد بقول الفيلسوف الإغريقي أرسطو الذي اعتبر المجتمع المدني «مجموعة سياسية تخضع للقوانين»، وحينها لم يميز أرسطو، كما يرى شفيع، «بين الدولة والمجتمع المدني، فالدولة في التفكير السياسي الأوروبي القديم يقصد بها مجتمع مدني فهي تمثل تجمعاً سياسياً، أعضاؤه هم المواطنون الذين يعترفون بقوانين الدولة ويتصرفون وفقاً لها».
لكن شفيع لا يتوقف عند تلك المحطة التاريخية القديمة، بل ينتقل منها لتشخيص «العوامل والمتغيرات العالمية التي ساهمت في تطور وشيوع مفاهيم المجتمع المدني»، والتي يلخصها في أربعة تحولات أساسية هي: «المتغيرات العالمية وما نتج عنها من حصول تطورات مهمة في مفهوم الدولة الحديثة، التطورات العلمية في مجال أنظمة الاتصالات ونظم المعلومات وتأثير ذلك على تطوير العلاقة بين الأفراد والمجتمعات العالمية، التطورات في البعد الأيديولوجي، وتأثيرها على التطورات الاقتصادية التي شهدها العالم، البعد التنموي للمجتمع المدني من خلال الجهود التي بذلتها منظمات عالمية تابعة إلى الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية».
من جانب آخر نجد الكاتب والناشط الحقوقي في مجال حقوق الإنسان ديندار شيخاني، هو الآخر يرجع جذور مفهوم المجتمع المدني إلى الفكر السياسي الإغريقي، وتحديداً في فكر «إفلاطون وأرسطو»، لكنه يرى أيضاً أن انتقال «فكرة المجتمع المدني من النطاق النظري إلى الواقع العملي (بدأ) إبان الثورة الفرنسية وذلك من خلال رفع الشعارات التي كانت تنادي بالحرية والأخوة والمساواة ويعتبر كتاب (العقد الاجتماعي) للفيلسوف جان جاك روسو أنجيل الثورة الفرنسية، الذي أكد على فكرة المجتمع المدني كضرورة حتمية لبناء المجتمع العلماني والديمقراطي المتطور، كما اعتمدت العديد من الدساتير وخصوصاً دستوري الثورتين الفرنسية والأميركية على نظرية العقد الاجتماعي».
ما يتفق عليه الجميع ومن بينهم عبدالجبار خضير عباس أيضاً، من صحيفة «الصباح» العراقية، أن «مصطلح المجتمع المدني، هو من إفرازات الفكر الغربي، وولادته في المجتمع الأوروبي، جاء نتيجة تزامن النهضة الفكرية مع الثورة الصناعية إلى جانب فصل الكنيسة عن الدولة وبذلك تجاوزت هذه المجتمعات الحالة الفطرية ( الطبيعية) إلى المجتمع المدني، الذي تحول إلى حاجة واستجابة للتحولات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية». ويميز عباس، كارل ماركس عن كل مفكري عصر النهضة في تحديدهم مفهوم المجتمع المدني، الذي يعتبره «مفهوماً برجوازياً لأن الحديث عنه يحول دون الحديث عن الصراع الطبقي».
أما أحمد عبد الأمير الأنباري (من كتاب موقع النبأ) فيفترض أن يكون المجتمع المدني «متميزاً عن الدولة، كما يفترض أن يكون للفرد في هذا المجتمع حقوق سياسية واقتصادية وثقافية، فالمجتمع المدني يزيد من فرص الأفراد بأن يُعترف لهم بحقوقهم التي يستحقونها وفقاً لإنسانيتهم، وأن يُمكنوا من التمتع بهذه الحقوق. وهذه الحقوق تمكن الفرد من حرية الاختيار».
وتعطي مثال عبد الله غني العزاوي من موقع «معهد الأبحاث والتنمية الحضارية»، تعريفاً شاملاً للمجتمع المدني، تتبناه، بعد أن تسرد قائمة طويلة من التعريفات العربية والأجنبية.
وينص تعريف العزاوي على أن «المجتمع المدني يمثل مجموعة من المنظمات والهيئات التطوعية المؤسسية التي تقوم على قاعدة التعاقد والمستقلة عــن سلطة الحكومة التي يتبنى أعضاؤها أهدافاً مشتركة، يحققونها عن طريق العمل الجماعي، المشاركة الواعية في مجالات مختلفة اقتصادية وثقافية ودينية وفنية واجتماعية وإنسانية وغيرها بالاعتماد على أنفسهم دون الاعتماد الكلي على الدولة، إلى الحد الذي تصبح فيه تلك المنظمات والهيئات والجمعيات بمثابة قوى اجتماعية لا تنفصل عن الدولة ولكنها بمثابة عين عليها». وترى العزاوي أن المجتمع المدني يرتكز على ثلاث أسس: قانونية وسياسية واقتصادية.
أما أحمد السيد الكردي، وهو من كتاب «بوابة يوم جديد»، الذي يرعاه المجلس القومي للطفولة والأمومة، وبالتعاون مع وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في مصر، فيحاول أن يلج بحر تعريفات المجتمع المدني من خلال تحديد عناصره الرئيسية التي يتكون منها، والتي يمكن تلخيصها في العناوين التالية: الفعل الإرادي أو التطوعي، والتنظيم، العنصر الأخلاقي السلوكي، الاستقلالية، الشفافية، المصداقية. ولعل أهم عنصرين في تلك القائمة هما الاستقلالية والشفافية. فالاستقلالية تعني «استقلالية منظمات المجتمع المدني تنظيمياً وإدارياً ومالياً عن إدارات الدولة الرسمية، بأبعادها المختلفة حقيقة واقعية وليست مجرد استقلالية شكلية فقط من حيث الأطر التنظيمية والهيكلية والأنظمة الداخلية لتلك المنظمات، بل يجب أن تكون هذه الاستقلالية ممارسة على أرض الواقع».
أما الشفافية فتعني «أن تكون رؤية ورسالة وأهداف منظمات المجتمع المدني ومصادر تمويلها واضحة ومشروعة، كما يجب أن تكون هناك آلية واضحة لمساءلة ومحاسبة الهيئات القيادية لتلك المنظمات من قبل هيئاتها العامة».
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2847 - الثلثاء 22 يونيو 2010م الموافق 09 رجب 1431هـ