العدد 2842 - الخميس 17 يونيو 2010م الموافق 04 رجب 1431هـ

صعود القوة الألمانية المعززة بالشوفينية القومية

نشوء النخبة الأوروبية (18)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

في الربع الأخير من القرن التاسع عشر كانت أوروبا على موعد مع صعود قوة ألمانيا التاريخية. فهذه القوة المضافة جاءت متأخرة زمنياً عن بريطانيا وفرنسا وهي اضطرت إلى تسريع عملية التحديث والتطوير وتوحيد السوق القومية للالتحاق بالقارة التي كانت سبقتها ونجحت في تعزيز ثروتها من خلال توسيع مجالها الجغرافي في المستعمرات والمناطق التي اكتشفتها آخذة بتركيز نفوذها في أميركا وآسيا وأفريقيا.

تأخر ألمانيا جاء لمجموعة أسباب، وتقدمها السريع جاء أيضا نتاج تآلف مجموعة عوامل. وفي الإطارين ساهم التأخر الزمني في توليد نزعة «عسكريتاريا» متسارعة النمو دفعت أوروبا لاحقاً إلى الدخول في محطة تاريخية حساسة ما أدى إلى انفجارها الذاتي في مطلع القرن العشرين.

ألمانيا قبل دخولها حلبة التنافس الجغرافي – التاريخي مع القوى الكبرى في القارة (بريطانيا وفرنسا) شهدت الكثير من التحولات الصعبة والصراعات المؤلمة. فهي خلال نهوض الحركة الدينية الإصلاحية في غرب أوروبا ووسطها في القرن السادس عشر شهدت ما يسمى بالحرب الفلاحية (1524 – 1526) ونمو انتفاضات شعبية استمرت لمدة عامين بسبب تحكم الإقطاع (الممالك الصغيرة) ورفض تلك الشريحة من الملاكين التجاوب مع الحركة الإصلاحية التي تأثرت بأفكار مارتن لوثر ونقده الحاد للكنيسة الكاثوليكية. وخلال حرب الثلاثين عاماً (1618 – 1648) في القرن السابع عشر عانت الولايات الألمانية (الممالك الإقطاعية) الكثير من ويلات الخراب والدمار لأن تلك الحرب الأوروبية التي نشبت بسبب التنافس الكاثوليكي – البروتستناتي انتشرت على أرضها وتعرضت خيراتها للنهب ولم تتوقف تداعياتها إلا بعد توقيع صلح ويستفاليا الذي قضى باستمرار تجزئة ألمانيا سياسياً.

آنذاك كانت بريطانيا قطعت شوطاً في التقدم التاريخي وقادت أوروبا إلى تحولات تمثلت في منعطفات نوعية سياسية وفكرية واكتشافيه تتوجت بتلك الثورة الدستورية التي أعقبت الحرب الأهلية في القرن السابع عشر. كذلك كانت فرنسا دخلت بدورها على خط التنافس ونجحت في تكوين نخبة مستقلة أخذت تنظر للتغيير وتشجع على التقدم التقني والتحول الدستوري ما أفضى لاحقاً إلى تفجير ثورة رفعت شعارات الأخوة والمساواة في نهاية القرن الثامن عشر.

كل هذه المتغيرات الأوروبية التي بدأت منذ مطلع القرن الخامس عشر أخذت تنعكس على الساحة الألمانية المنقسمة على مراكز قوى (ممالك) ما أدى إلى نمو نخبة من خارج القنوات التقليدية للشريحة السياسية التي تقود البلاد. فالنخبة المذكورة استلهمت الكثير من أفكارها التجديدية من التجربة البريطانية الدستورية والثورة الفرنسية وبدأت تنظر فلسفياً للحرية والعدالة والمساواة وتطالب بتوحيد ألمانيا وتصنيعها ودفعها في مجال التقدم التاريخي إلى الأمام.

دعوات النخبة الألمانية (كانط وهيغل وفيخته وغيرهم) أصيبت بضربة سياسية حين اجتاح نابليون أوروبا وخاض معركة أوسترليتس في العام 1805 في مواجهة تحالف القوات الروسية – النمسوية وانتصر فيها، ثم عاد ليخوض معركة ايينا ضد الجيش البروسي في العام 1806 التي انتهت باستسلام بروسيا لفرنسا بعد دحر جيشها وإلحاق خسائر كبيرة بممالكها.

أحدثت الضربة البونابرتية ردة فعل في جوانب من الشرائح النخبوية (فيخته مثالاً) وشجعت على نمو تيار قومي يبالغ في التركيز على أهمية الوحدة السياسية الذاتية وتغليبها على العوامل الموضوعية الأخرى. فالنداءات التي وجهها فيخته في خطاباته القومية تشددت في تضخيم «الإرادة» ودورها في صنع التاريخ. وشكلت هذه النزعة الإرادوية أحد أوجه الانقسام في تطور النخبة الألمانية ما أدى لاحقاً إلى توليد رؤية شوفينية متطرفة في التعالي والتكبر على الشعوب والأعراق والجماعات الأهلية الأوروبية الأخرى.

هذا النمو الشوفيني كان بحاجة إلى ذرائع وكذلك إلى ظروف ومعطيات تسمح له بالتقدم لأخذ القيادة في ميدان التنافس على السلطة السياسية. وجاء الرد التاريخي بعد هزيمة نابليون ونجاح التحالف الأوروبي في وضع نهاية لطموحاته العسكرية وتطويق الآثار المعنوية التي ولدتها الثورة الفرنسية.

هزيمة نابليون في 1815 شكلت نقطة تحول في مزاج القارة إذ أدت إلى إطلاق موجة رجعية مضادة لحركة التنوير الفرنسية التي جذبت النخب الأوروبية في القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر. الهزيمة لم تقتصر على الجانب الفكري وإنما امتدت لتترك تأثيراتها على الجانب السياسي وتوازن القوى.

أوروبا بعد واترلو ستدخل في طور هدنة معاهدة فينيا في العام 1815. فهذه المعاهدة ستعيد ترسيم الحدود السياسية لجغرافية القارة وستمهد الطريق لنمو الأفكار القومية وعودة الملكية إلى فرنسا (أسرة بوربون من 1814 إلى 1830)، وستفتح الباب لصعود القوة الألمانية.

ألمانيا رسمياً لم تكن موجودة على الخريطة الأوروبية قبل مؤتمر فيينا، فهي كانت مجرد ولايات تقودها بروسيا التي نجحت في ضم مقاطعات براندينبورغ وبوزنان وبوميرانيا وسيليزيا قبل العام 1815. بعد ذلك العام ستدخل مقاطعة الراين المتقدمة سياسياً واقتصادياً وثقافياً إلى الحلف البروسي ما سيؤدي إلى نهوض فكرة الوحدة القومية وتحولها إلى مشروع سياسي إرادوي.

ترافق نمو الظاهرة البروسية مع تأسيس ما يسمى بالحلف المقدس وهو تحالف تشكل ظرفياً في العام 1815 أيضاً وضم روسيا القيصرية والنمسا وبروسيا وكانت مهمته مطاردة حركة التنوير الأوروبية وملاحقة أنصارها بتهمة التعامل مع نابليون والثورة الفرنسية.

لم تقتصر تأثيرات «الحلف المقدس» على الجانب الأيديولوجي بل كانت له مضاعفات جانبية حساسة حين أعطى فرصة تاريخية لنهوض الظاهرة البروسية وتقدمها الاقتصادي وتطورها العسكري. فهذه الوظيفة الاستثنائية سمحت بنمو نزعة التوحيد القسري للسوق القومية الألمانية بقيادة بروسيا ما ولد بدوره انعكاسات بنيوية أدت إلى تصادم القوة الجديدة بمحيط متفاوت في تطوره الاقتصادي بين شرق القارة ووسطها وغربها وجنوبها.

بين 1815 و1871 ستشهد أوروبا ما يمكن وصفه بالظاهرة البروسية ونمو ذاك الفائض من القوة العسكرية والنزعة الشوفينية المعززة بالإرادة وتسريع الخطوات للالتحاق بالثورة الصناعية وتقدمها التقني في بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة.

فالإحساس بالتأخر شجع على نمو قوة مركزة ذاتياً تدفع العلاقات بسرعة نحو التوحد والتطور والتنافس من خلال اتخاذ قرارات فوقية سلطوية تتغطى بالقانون والدستور من جهة وتعمد إلى محاصرة الحريات العامة من جهة أخرى. وأدت هذه القرارات المتعارضة إلى تركيز السلطة بالهيئة التنفيذية وإضعاف الهيئات التشريعية والمراجع القضائية. في العام 1848 مثلاً أقدم الملك البروسي على إلغاء الجمعية التأسيسية (البرلمان) مقابل صوغ دستور متأخر في قوانينه عن بريطانيا وفرنسا بدأ العمل به بعد أن صادق عليه فريدريك ويلهم الرابع في العام 1850.

هذا التهميش الدستوري للمجالس التشريعية والهيئات القضائية أعطى قوة مضافة للسلطة التنفيذية وأطلق المجال لنمو الظاهرة التوسعية (التوحيدية) البروسية بقيادة بسمارك. وأدى هذا الفائض في نمو العسكريتاريا البروسية (نظام اللاندوير/ الميليشا الشعبية الذي بدأ العمل به في العام 1814) إلى تحقيق وحدة ألمانيا بالقوة، وأيضاً إلى انهيار جبهة «الحلف المقدس» حين خاضت بروسيا حربها مع النمسا في العام 1866. وبعدها أخذت تتوجه غرباً وجنوباً نحو فرنسا ما أدى إلى وقوع حرب امتدت من 1870 إلى العام 1871 وانتهت بانتصار بروسيا وهزيمة فرنسا. وأدت الغلبة البروسية (الألمانية) على فرنسا إلى إجبار حكومة باريس على دفع خمسة مليارات فرنك على ثلاث سنوات (1871 – 1873) بمثابة تعويضات حرب لألمانيا بعد توقيع معاهدة الصلح بين الدولتين.

وصول ألمانيا البسماركية إلى هذا الطور من فائض القوة العسكرية ترافق مع تأخرها الصناعي المدني قياساً بالتقدم الذي استقرت عليه بريطانيا بعد الثورة البخارية (اختراع جيمس واط للآلة) وامتدادها الجغرافي إلى فرنسا وأجزاء من القارة الأوروبية. فالآلة البخارية أحدثت تعديلات بنيوية في علاقات الاجتماع وشجعت النخبة على تطوير خطاباتها التنويرية ودفعت السلطات إلى تعديل نصوصها الدستورية لتتناسب قانونياً مع نمو حاجات فرضتها ظروف اتساع الرقعة السكانية (ثورة ديموغرافية) وضغوطها المتزايدة على تلبية متطلباتها الاستهلاكية.

هذا النمو المدني في دلالاته السياسية تأخرت ألمانيا زمنياً ونسبياً في التعرف عليه. فآنذاك شهدت القارة تحولات ديموغرافية – عمالية حطمت الكثير من القوالب الكلاسيكية والمراجع التقليدية. والتنوع في المراجع أعطى المجال الحيوي لتطور الفلسفة وتعزيز دور النخبة الأوروبية التي أخذت تحتل مواقعها في الجامعات والمعاهد الأكاديمية ومؤسسات الدولة وبدأت تنتقل من قوة ضاغطة على السلطة إلى قوة فاعلة تساهم في وضع برامج التحديث وخطط الانتقال من عصر المانيفاكتورة إلى عصر الآلة (الثورة الصناعية).

أدى هذا التحول الاجتماعي – الذهني إلى إطلاق موجة من الاضطرابات العمالية وظهور الهيئات النقابية والأحزاب اليسارية والمدارس الاشتراكية والوضعية منذ العام 1831 إلى العام 1848، وهي السنة التي وضع فيها الثنائي ماركس – انغلز «البيان الشيوعي» بتكليف من منظمة عصبة الشيوعيين (1847 – 1852). وساهم البيان في صوغ فلسفة صراع الطبقات وأعطاه بعده التاريخي من المرحلة البدائية (المشاعية الأولى) إلى المرحلة الصناعية (ما بعد الرأسمالية).

في خضم تلك الفضاءات هبت كومونة باريس في العام 1871. فالكومونة شكلت حكومة ثورية مؤقتة وطرحت فكرة النظام الاشتراكي ولكنها لم تستمر أكثر من 72 يوماً وسقطت بسبب الفوضى وعدم قدرتها على صوغ برنامج يضبط الاستقرار ويرد على أسئلة الناس وحاجاتهم ومتطلباتهم. وساهمت الانتفاضة الفاشلة (كومونة باريس) في انقسام اليسار والقوى الاشتراكية والمنظمات العمالية وتشكيل توجهات ديمقراطية وأخرى متطرفة تدعو إلى العنف وفرض ديكتاتورية عمالية.

آنذاك كانت ألمانيا بعيدة وقريبة من كل تلك المتغيرات. فهي من جانب تعاني من الآثار السلبية التي جلبها لها نظام اللاندوير البروسي، ومن جانب آخر كانت تتخبط في خياراتها المتأخرة زمنياً سواء على مستوى تخلف الصناعة المدنية قياساً ببريطانيا أو على مستوى ارتدادات توحيد سوقها القومية بالقوة العسكرية.

أطلق نظام اللاندوير (جيش المتطوعين الشعبي المساند للقوات النظامية) منذ تأسيسه في العام 1814 موجات سلبية على مستوى تغذية مشاعر الشارع (الاحتياط الجماهيري) فظهرت حركات سياسية غوغائية وشعارات حماسية أنتجت سلسلة حروب في إطار الداخل وفي المجال الجغرافي. كذلك ساهم نظام الاحتياط الشعبي في تشجيع مدارس ديماغوجية (لفظية) في إطار شرائح من النخبة ما ترك تأثيراته على الشعر (قصائد الشاعر الألماني هاينه وتبجيله لنظام المارش الجرماني) وعلى الموسيقى (ألحان فاغنر الحماسية) وعلى الفلسفة (ظهور مدارس تدعي التوصل إلى الحقيقة المطلقة والأجوبة النهائية).

هذا الطور الانتقالي المتسارع والمتأخر في آن يفسر نمو ظاهرة الشوفينية في إطار قوة صاعدة تبحث عن موقع في القارة ومكان في الزمن الحديث ودور في قيادة قاطرة أوروبا المعاصرة.

في هذا الجو الفضفاض أطلق نظام اللاندوير موجة من الطموح الذاتي (الارادوي) تمثل في تشجيع ظهور طفرة من الفلاسفة الألمان والمدارس الديماغوجية والتيارات الفكرية التي بالغت في ادعاءات التفوق الذهني على كل ما أنتجته القارة من إنجازات في مختلف حقول العمران والمعرفة.

الفلسفة، كما يقول هيغل في محاضراته عن تاريخها، لا تظهر حين «يكون الشعب مكبلاً بقيود الحاجة (...) أن الفلسفة تتجلى عندما يتخلى شعب ما عن حياته الملموسة (...) وهي تتجلى عندما تنحل أخلاقية شعب ما وتهرب الروح إلى ميدان الفكر باحثة فيه عن مملكة داخلية» (ص 134 – 135).

يمثل يوغين دوهرينغ في هذا الصدد النموذج الصارخ على تلك الطفرة الديماغوجية من الفلسفة التي ادعت الكشف النهائي عن الحقيقة المطلقة باسم «المدرسة الواقعية الاشتراكية». فمن هو دوهرينغ الذي وصفه أنغلز بصاحب «القصور الذهني الناجم عن جنون العظمة»؟

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2842 - الخميس 17 يونيو 2010م الموافق 04 رجب 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً