فاجأ السياسي المعروف ووزير التعليم الأردني السابق سعيد التل عندما قدم وثيقة مهمة جدا بعنوان «رسالة إلى الأكاديميين الإسرائيليين» وفيها يقدم مواجهة صارمة لبناة الصهيونية المعاصرة... بصورة عامة، يمكن القول إن الاكاديميين، وبغالبيتهم الساحقة، وفي جميع أنحاء العالم وبحكم مستوى التعليم الذي حصلوا عليه، والمراتب العلمية والاجتماعية التي وصلوا إليها، هم القيادات الفكرية الإنسانية العليا، لا على مستوى الدول التي ينتمون اليها فحسب، وإنما على المستوى العالمي أيضا. علاوة على قدرة هؤلاء الأكاديميين العقلية المتميزة، التي أهلتهم للوصول الى هذه المراتب التي وصلوا إليها، فإنهم أيضا علماء كبار في مجال اختصاصاتهم.
والغالبية الساحقة من الأكاديميين وبقدراتهم المتميزة وعلمهم العميق وخبراتهم الغنية متحدرين من الأوهام، وغير منحازين، لا بل رافضين للسياسات الضيقة والتعصبات البغيضة، والمواقف اللاعقلية، وهم الأكثر التزاما بالاخلاق والقيم والمثل الانسانية، وهم الأكثر وعيا والأكثر التزاما بحرية الانسان وحقوقه، وهم وبناء على وعيهم العميق وحسهم المرهف الأكثر رفضا للظلم والقهر والعنف. طبعا ان كل هذا لا يعني ان بعضا غيرهم لا يتصف بهذه الصفات.ويضيف ان الأكاديميين في جميع الدول الديمقراطية المتقدمة، وكما هو معروف، هم المرجعية الفكرية لأصحاب القرار السياسي، لا بل ان القرار السياسي في هذه الدول وبجميع أبعاده، وعلى مختلف مستوياته، لا يتخذ إلا بمشورة أصحاب الاختصاص من هؤلاء الأكاديميين.
ولفت الى ان الأكاديميين في العالم عموما والأكاديميين الإسرائيليين خصوصا، شأنهم شأن غيرهم من المواطنين في فلسطين و«إسرائيل» والمنطقة العربية وفي العالم أجمع، يشاهدون يوميا ما تعرضه شاشات التلفزيون من مظاهر الظلم والعنف والقهر البشعة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني صباح مساء من قبل حكومة الجنرال شارون ومدرسته. نساء وأطفال وشيوخ من أبناء هذا الشعب، يقتلون كل يوم، وبيوت لهم تدمر وأحيانا على رؤوس أصحابها، ومعالم تاريخية تطمس. ومرضى فلسطينيون لا يجدون الطبيب ولا العلاج، وآخرون في حالات خطرة لا يستطيعون الوصول الى المستشفيات. مرضى فلسطينيون يموتون وهم ينتظرون العبور عند الحواجز العسكرية، ونساء فلسطينيات حوامل يضعن مواليدهن على هذه الحواجز.
هذه الصور، وغيرها من صور المعاناة الرهيبة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني على أرض فلسطين من قوة غاشمة محتلة لوطنهم، هي ومن دون أدنى شك أشد ايلاما ووجعا عند الأكاديميين ان كانت أعراقهم وأديانهم. ومن هذا الألم، ومن هذا الوجع المشترك، أبعث بالملاحظات التالية الى الأكاديميين في العالم عموما وإلى الأكاديميين الإسرائيليين، خصوصا، لتكون بمثابة دعوة لهم لاتخاذ موقف يحول دون استمرار هذه الصور المؤلمة التي يفرضها الجنرال شارون ومدرسته ومن دون تطورها، سيما ان للأكاديميين الإسرائيليين دورا مهما في عملية اتخاذ القرار وعلى مختلف المستويات والمواقع، وفي جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والتربوية وغيرها:
ان الأكاديميين الإسرائيليين يدركون الادراك كله ان إنشاء دولة لليهود على أرض فلسطين كان عملا ليس فقط ظالما بشعا بل هو عمل مؤلم ضد الشعب الفلسطيني، الذي وكما يعرف الأكاديميون الإسرائيليون أصحاب أرض فلسطين الشرعيين، يعيشون عليها منذ آلاف السنين، كما انه قهر موجع له، يعاني من تبعاته القاسية المباشرة وغير المباشرة منذ أكثر من نصف قرن من الزمان.
ان الأكاديميين الإسرائيليين يدركون ان إنشاء دولة لليهود على أرض فلسطين كان قرارا غير سليم وغير صحيح جملة وتفصيلا، لانه بني على تفسيرات غير دقيقة لقناعات دينية، وعلى معلومات تاريخية غير صحيحة. كذلك، فان الدول الغربية التي دعمت تأسيس هذه الدولة، كان دعمها من اجل تحقيق مصالح امبريالية خاصة بها، لا علاقة لها بالقيم الانسانية ولا بالعقائد الدينية ولا بمصلحة اليهود على المدى البعيد.
ان الاكاديميين الاسرائيليين يعرفون ان فلسطين كانت تعرف بالزمن القديم بارض كنعان، وان الكنعانيين (وهم قبائل كانت قد نزحت من شبه الجزيرة العربية) هم الذين اسسوا مدينة القدس قبل عدة قرون من مجيء العبرانيين الذين يعتقد اليهود انهم ينتمون اليهم. ويعرف الاكاديميون الاسرائيليون ان حكم اليهود في ارض كنعان كان متقطعا، ولم يزد على خمسمئة سنة من تاريخ القدس كله الذي يزيد على ثلاثة آلاف سنة، وذلك منذ ان دخلوا ارض كنعان بقيادة يشوع بن نون في نهاية القرن الثاني عشر قبل الميلاد حتى اخرجوا منها. ويعرف الاكاديميون الاسرائيليون ان فلسطين، ومن ضمنها القدس، قد خضعت لحكم كل من: المصريين، والآشوريين، والفرس، واليونان، والبطالسة، والسلوقيين، والرومان وغيرهم، حتى استعادها العرب المسلمون سنة 636 ميلادية. ومنذ هذا التاريخ وحتى سنة 1967، كانت تحت حكم العرب والمسلمين، باستثناء الفترة التي احتلها الصليبيون والتي تمتد بين عامي 1099م و1178م، وفترة الانتداب البريطاني على فلسطين، بين عامي 1918م و1948م. ويعرف الاكاديميون الاسرائيليون انه لو كان لليهود حق في القدس وفلسطين على أساس حكمهم لها لفترات متقطعة لا تتجاوز خمسمئة سنة، فانه ومن باب اولى ان يطالب العرب بحقهم في مدريد وإسبانيا التي حكموها لمدة تزيد عن ثمانمئة سنة، وان يطالب اليونانيون باسطنبول وغرب تركيا التي قد حكموها لاكثر من الفي سنة. ويعرف الاكاديميون الاسرائيليون ان القدس بالنسبة إلى العرب الذين يصل عددهم الى حوالي (280) مليون نسمة هي بقعة مقدسة وجزء غال وعزيز من الوطن العربي، ولا يمكن التنازل عن هذا الجزء، طال الزمن ام قصر، ومهما بلغت التضحيات وان القدس بالنسبة إلى المسلمين الذين يتجاوز عددهم البليون وربع البليون مسلم هي اولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وهي لديهم مدينة مقدسة، تحتل في قدسيتها المرتبة الثالثة بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة، ولا يمكنهم قبول خضوعها لاي ارادة غير ارادتهم، طال الزمن أم قصر، ومهما بلغت التضحيات ايضا. ويعرف الاكاديميون الاسرائيليون ان تأكيد عروبة القدس العربية واسلاميتها، لا يعني بأي شكل من الاشكال حرمان اصحاب الديانات السماوية الاخرى من ممارسة حقوقهم الدينية المشروعة في هذه المدينة، والتي رعاها العرب المسلمون وحافظوا عليها منذ ان عادوا اليها سنة 636م. ويعرف الاكاديميون الاسرائيليون، بناء على ذلك كله، ان التمسك بشعار (القدس عاصمة إسرائيل الأبدية) خطر على «إسرائيل»، وعلى وجودها واستمرارها، وان الحل الشامل والدائم والعادل للصراع العربي الاسرائيلي والذي يعيد للفلسطينيين الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس العربية هو الذي يجنب الجميع كل مترتبات الدماء والدمار والخراب.
ان الاكاديميين الاسرائيليين يدركون ان إنشاء دولة «اسرائيل»، ووجود هذه الدولة واستمرارها، كان وما يزال، بسبب عوامل رئيسية ثلاثة، أولها: غياب الإرادة العربية الواحدة، وثانيها: الدعم البريطاني في مرحلة التأسيس والدعم الاميركي من اجل الاستمرار والبقاء، وثالثها: القوة العسكرية الكبيرة التي تمتلكها دولة «إسرائيل».
ان الاكاديميين الاسرائيليين يدركون ان غياب الارادة العربية الواحدة الذي سهل امر تأسيس دولة «اسرائيل» في البداية، وسمح باستمرار هذه الدولة حتى الآن، سينتهي قريبا لا محالة، مع التطور الديمقراطي، الذي بدأ يفرض وجوده في الوطن العربي، والتي بدأت ملامح بشائره في بعض هذه الدول. ومثلما تحقق قيام الاتحاد الاوروبي، وبإرادة الشعوب الاوروبية الديمقراطية، كذلك سيتحقق قيام الاتحاد العربي وبارادة الشعوب العربية، طال الزمان ام قصر. فالانسان العربي في جميع الدول العربية يدرك اليوم، لا كرامة له ولا أمن، ولا استقرار ولا تطور ولا نمو الا بقيام اتحاد عربي مناظر للاتحاد الاوروبي. اتحاد عربي يفرض وجوده في العالم، ويفرض احترام العالم للأمة العربية.
ان الاكاديميين الاسرائيليين يدركون ان الدعم الاميركي لدولة «اسرائيل» لن يتوقف بفعل اللوبي الصهيوني القوي في اميركا، ولكنه سوف يتقلص كثيرا عند قيام الاتحاد العربي المناظر للاتحاد الاوروبي. ان مصلحة الولايات المتحدة الاميركية السياسية والاقتصادية والأمنية ستكون مع الاتحاد العربي، باعتبار ما سيكون، والذي سيضم نحو (280) مليون نسمة، وليس مع دولة «اسرائيل»، التي لن يتجاوز عدد سكانها الملايين الخمسة.
ان الاكاديميين الاسرائيليين يدركون ان التفوق العسكري الاسرائيلي على الدول العربية مجتمعة لن يستمر طويلا، اذ ان هذا التفوق قائم بصورة رئيسية على السلاح النووي والسلاح الجرثومي والسلاح الكيماوي. وهذه الأسلحة النووية والجرثومية والكيماوية وكما يقول المختصون ستكون بمتناول جميع الدول الراغبة في حيازتها، لا بل ان مثل هذه الاسلحة ستكون وكما يقول هؤلاء المختصون ايضا بحيازة العصابات الدولية.
ان الاكاديميين الاسرائيليين، وخصوصا المتخصصين في العلوم الذرية والنووية، يعرفون ان صناعة هذا السلاح لم تعد سرا او حكرا على دول محددة، بل ان هناك قنابل ذرية تكتيكية معروضة للبيع الآن في السوق السوداء العالمية كما تذكر الكتب والتقارير الاعلامية.
ان الاكاديميين الاسرائيليين، وخصوصا المختصين منهم في العلوم الكيماوية والبيولوجية يعرفون ان معلم الكيمياء في المدرسة الثانوية يستطيع تصنيع سلاح كيماوي، بدولار واحد، في مختبر المدرسة، يمكن من خلاله قتل الآلاف من بني البشر. كما ان معلم البيولوجيا يستطيع ان يصنع بدولار واحد سلاحا بيولوجيا، في مختبر المدرسة، يقتل الآلاف من البشر ايضا.
ان الاكاديميين الاسرائيليين يدركون ان اقتلاع مواطنين آمنين من بيوتهم ومدنهم وقراهم، والتي عاش فيها آباؤهم واجدادهم منذ الآف السنين، ثم تهجيرهم بقسوة ليعيشوا لاجئين في مخيمات خارج وطنهم، هو عمل في
العدد 284 - الإثنين 16 يونيو 2003م الموافق 15 ربيع الثاني 1424هـ