العدد 2836 - الجمعة 11 يونيو 2010م الموافق 28 جمادى الآخرة 1431هـ

«المونديال» في مواجهة الاحتكار

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

بدأت أمس في إفريقيا الجنوبية دورة «مونديال كأس العالم» لكرة القدم بمشاركة 32 دولة من القارات الخمس نجحت في اختراق التصفيات التمهيدية لرياضة اكتسبت شعبية استثنائية في مختلف الأمم. فهذه الرياضة كروية فعلاً لأنها استطاعت أن تشد انتباه الشعوب على اختلاف الأقوام واللغات والأديان والثقافات والألوان إلى منافسات مفتوحة بين دول قوية وضعيفة، غنية وفقيرة، متخمة وجائعة.

لا مكان للتقسيمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأيديولوجية في بطولة كرة القدم. وبسبب انعدام التفرقة بين الشعوب نجحت هذه الدورة التي تعقد مرة كل أربع سنوات في تحويل المنافسة إلى مناسبة كونية تتواجه خلالها الفرق «القومية» على الفوز بالكأس الذهبية.

شعبية كرة القدم الدولية جاءت بسبب هذه المساواة التي تحصل مرة واحدة كل أربع سنوات. فالقوي عسكرياً ليس بالضرورة هو الطرف المؤهل للفوز. والقوي اقتصادياً يحتاج إلى مقويات أخرى لمساعدته على كسب الكأس. والفاجر سياسياً يتحول في هذا الشهر الممتد من 11 يونيو/ حزيران إلى 11 يوليو/ تموز إلى نعجة تكافح من أجل إثبات حضورها في مواجهة فرق جاءت من دول فقيرة ومسكينة تعاني الجوع وسوء التغذية وحالات من الفوضى أو الانقسام الأهلي وغيرها من مشكلات اجتماعية واقتصادية وصحية وتربوية.

انعدام التفرقة ولو شكلياً لمدة وجيزة أعطى هذه الرياضة قوة شعبية غير منظورة في مختلف دول الكرة الأرضية. فالمنافسة في هذه المناسبة ليست تكنولوجية ولا علمية ولا مختبرية وإنما هي تعتمد على مهارات فنية تكشف عن طاقات فردية لا تحتاج بالضرورة إلى قدرات خاصة تحتكرها عادة الدول المتقدمة أو تلك المتفوقة بالمال والثروات والإمكانات الاقتصادية والتقنية والعسكرية.

هذا التبسيط لمعنى جماهيرية كرة القدم يفسر سيكولوجياً لماذا تحتل هذه الرياضة هذا الموقع المتقدم في عالم لا يزال يمر في طور التفرقة والتمييز والانشطار بين شمال وجنوب وشرق وغرب ودول متقدمة وأخرى نامية. في هذا الشهر تتلاشى تلك التقسيمات الجغرافية والاقتصادية بين الأغنياء والفقراء وتتماهي الطبقات في معركة تنافس افتراضية على البطولة ولكنها في حقيقة المشهد تظهر وكأنها فرق (دول) متساوية في حدود الملاعب. فالتنافس الذي تلاحقه يومياً ولمدة شهر مئات الملايين من البشر من مختلف الجنسيات والقوميات يشكل سيكولوجياً لحظة عبور تتجاوز الفروقات الزمنية بين الشعوب. وعملية المتابعة لمجرى الكرة تؤدي في حالات الضياع إلى وحدة كونية وهمية تدفع الشعوب إلى اختراق الحواجز وعبور الحدود وترتيب الانقسام على قواعد لا علاقة لها بالموروثات.

الجماهير الرياضية في هذه اللحظات تتخلى عن ألوانها وأعلامها وأحزابها لتلتحق بالدولة إذا كانت منخرطة في المنافسة أو أنها تختار دول معينة لتنحاز إليها إذا كان فريقها قد فشل في تصفيات الدورة التمهيدية للتأهيل. والجانب الأخير من المسألة يشكل نقطة مهمة في الانقسام لأنه يرفع الجمهور من رتبة الالتحاق الطبيعي (الغريزي) إلى مستوى الاختيار العقلاني للدولة (الفريق). والاختيار الفني يعطي فرصة للتفكير وتجاوز الكثير من العقبات الذهنية التي تلعب دورها في الحياة العامة والعادية في تحديد الموقف والموقع من هذا المعسكر أو ذاك.

أحزاب رياضة

الانقسام «الحزبي» في بطولة مونديال كأس العالم يختلف في منطقه الطبيعي عن تلك الانقسامات الموروثة التي تتكيف مع أشكال التفرقة المتعارف عليها اقتصادياً أو سياسياً بين الشعوب. فالجماهير التي تنتمي إلى العالم الثالث تأخذ عموماً من الفرق القادمة من إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية مواقف التأييد والدعم ضد تلك القادمة من أوروبا وأميركا الشمالية. والجماهير التي تنتمي إلى العالمين الأول والثاني تنحاز غريزياً إلى فرقها أو إلى دول «شمالية» تواجه دول «الجنوب». هذا الاختراق الوهمي (الافتراضي) للحدود يساهم في ترتيب الدول على قاعدة أولويات لا علاقة لها باللون واللغة والدين والثقافة أو القوة الاقتصادية والمالية والعسكرية. فالانقسام يصبح في هذه اللحظات مجموعة مراهنات على «أحزاب» رياضية تعكس في جوهرها مواقف سياسية مجمعة في عقل الجمهور من تجارب موروثة عن تاريخ الصراع بين الدول.

حزب البرازيل دائماً هو الأقوى جماهيرياً والأوفر حظاً فنياً. وبعده حزب الأرجنتين ثم المكسيك أو تشيلي... وهكذا تتحول المنافسة الرياضية إلى صراع أحزاب «دولية» تبدأ بالتساقط والخروج من الدورة حتى تستقر على مجموعة الـ 16، لتبدأ بعدها عملية فرز جديدة واختيار الأفضل «سياسياً» بين دول الشمال والجنوب. وخلال هذا الطور الفني تدخل إلى المعادلة الرياضية فرق البرتغال وإسبانيا وإيطاليا في مواجهة تلك التي تنتمي إلى انجلترا وأميركا وفرنسا وألمانيا وهولندا وسويسرا. وفي الدور الربع النهائي تخرج 28 دولة وتبقى أربع فرق تتواجه على الدور النصف النهائي وأخيراً المركز الثالث والبطولة.

عملية التدرج في التصفيات تساهم في إعادة تشكيل الاختيار بين دول وأخرى ضمن حسابات تراكمية تتداخل فيها الانحيازات «السياسية» مع المفاضلة الفنية إلى أن تستقر المنافسة على إيقاعات الفوز أو الخسارة في نهاية شهر «المونديال» لتعود بعدها الجماهير من حال التوهم إلى واقع الحياة.

منطق الاحتكار

كل هذه الفضاءات أعطت هذه الرياضة شعبيتها العالمية، وبسببها أصبحت اللعبة المفضلة للامتحان والثأر والانتقام وربما التباهي بوجود مهارات فردية تتجاوز قدرات الدول «الغنية» على التنظيم والتدريب وتطوير اللياقة المكلفة مادياً وهي عناصر لا تمتلكها تلك الفرق القادمة من عالم البؤس.

الانقسام «الطبقي» بين الدول يلعب دوره في إشعال حدة التنافس الكروي في لحظة وجيزة تعطي فرصة للضعيف أن يأخذ مكان القوي في مساحات صغيرة لا تتجاوز حدود الملاعب ولكنها رمزياً تعوض سيكولوجياً الكثير من الحرمان الذي تعاني منه الشعوب المقهورة. ولهذه الأسباب والعوامل تحول «المونديال» إلى لعبة عالمية تخترق الحدود وتتجاوز القوميات وينتظرها الناس من مختلف دول الكرة الأرضية مرة كل أربع سنوات.

مسألة «حرمان» الضعفاء والفقراء من هذا الحق المكتسب تعاكس زاوية مهمة لرؤية المشهد في إطاره القاري (الكوني) وهي نقطة تبدو عقلية المال والاحتكار وحب التسلط لا تتفهمها حين تتجه نحو تبني سياسة تدفيع الجماهير ثمن مشاهدة هذه اللحظات التي تنتظرها لتفريغ الاحتقان المتراكم. احتكار الفضائيات حق البث وفرض غرامات على أصحاب الدخل المحدود لمشاهدة مباريات لعبة شعبية دولية يشكل خطوة ارتدادية تتحدى مشاعر الملايين لأنها تعيد تقسيم الناس إلى أغنياء وفقراء وتشطيرهم إلى فئات يحق لها المشاهدة لأنها تمتلك المال وفئات أخرى لاحق لها لأنها متأخرة أو غير قادرة على السداد. هذه النزعة الاحتكارية (الحصرية) سيئة للغاية لأنها أساساً تأخذ الموقع المضاد من لعبة عفوية أخذت مكانها الخاص لأنها انطلقت من مساحة المنافسة المفتوحة من دون تمييز أو تفرقة بين الشعوب والدول.

دخول الاحتكار على دورة المونديال التي بدأت أمس في إفريقيا الجنوبية يشكل علامة سلبية ويكشف عن أن عالم المال لا يزال يسيطر على مختلف القطاعات حتى تلك التي نجحت في كسر الكثير من الحواجز والانقسامات. الاحتكار تفرقة وهذا في منطقه الاستعلائي يشكل ضربة موجعة ضد لعبة تأسست جوهرياً على فكرة التنافس الفني (الوهمي) بين دول قوية وأخرى ضعيفة

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2836 - الجمعة 11 يونيو 2010م الموافق 28 جمادى الآخرة 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً