«كان الجابري يجلس إلى عشاء عائلي محاطاً بزوجته وولديه وبنتيه وأحفاده الذين يأتون لزيارته مع نهاية كل أسبوع في مقر إقامته في الدار البيضاء. مرت الأمور عادية خلال تلك الأمسية، ولم يكن يخطر على بال أي واحد من أفراد الأسرة أن تلك ستكون آخر جلسة مع والدهم».
تلك شهادة نجل محمد عابد الجابري، عادل. لكن ليست تلك هي المسألة. ليست مسألة «العشاء الأخير»، إنها مسألة مشروع فكري مكلف وفادح في بيئة عربية مغيبة لا يهمها في كثير أو قليل عشاء أو غذاء أخير لنخبتها، عدا أفراد من أمتها بسيطين تحددهم الخريطة من الماء إلى الماء.
في إحدى لقاءاته الصحافية النادرة، وتحديداً في العام 2001، أجراه سليمان بختي، على هامش ندوة «نحو مشروع حضاري نهضوي عربي»، نظمها مركز دراسات الوحدة العربية في العاصمة اللبنانية (بيروت)، قال الجابري: «الناس تبحث عن مكان في الدولة... عن دور... عن منزلة... عن عمل... عن حقوق... عن مكان في السلطة، ولو أقفلت جميع الأبواب لا يبقى إلا باب التطرف».
كأنه يتحدث باسم واقع عربي ممتد من الماء إلى اليابسة. واقع بائس بؤس شلل ينتاب موضوعات التنمية والحقوق والحرية وفصل السلطات وتفشي المحسوبية وهيمنة الفساد وغربة الشفافية وعربدة الطوائف والقبائل وذوي النفوذ والمقربين من دوائر القرار.
في زيارته الأخيرة إلى مملكة البحرين مشاركاً في مؤتمر خصص لابن خلدون نظمته جامعة البحرين، كان متحفظاً عن الرد على سؤال وجه إليه بشأن العدالة الانتقالية، وهل يمكن لها أن تتحقق هنا بعد المشروع الإصلاحي لجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة. لم يخف تمنيه أن يحدث ذلك بطي البحرين ملفاً سيوفر عليها مساحة شاسعة من الصداع والأزمات والملاحقة الداخلية، عدا الاستنطاق الدولي. لكن لم يكترث أحد لما طرحه، كما لم يكترث أحد لصحوة المنظمات الدولية!
صاحب مشروع «نقد العقل العربي» الذي استنفذ منه 17 عاماً من التقعيد والتأصيل والتشخيص على مستوى البنية والتكوين والسياسة والأخلاق، جاء بمثابة رد فعل على نكسة يونيو/ حزيران 1967، إلى جانب بروز الصحوة الإسلامية في السبعينيات، تلتها ثورة الإمام الخميني في العام 1979 (كما يقول هو).
في «نقد العقل العربي»، سعى الجابري إلى أن يكون على متاخمة مع إشكالات بنية التفكير، وجدل التكوين ومآلاته وتراكم السياسات، وما أنتجته من أخلاق بعيداً عن المنبع الأول من أصل التكوين.
جاء مشروعه اللافت والعميق «فهم القرآن الحكيم: التفسير الواضح حسب ترتيب النزول» في أجزائه الثلاثة الذي كانت له مسبقات محفزة، منها أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001، والذي لم ير في ذلك المشروع «ذيلاً وتكملة لمشروع «نقد العقل العربي»، كما يرى أنه نأى به عن التوظيف الأيديولوجي والاستغلال الدعوي الظرفي؛ فيما يمكن القول اتفاقاً مع عبدالرحمن الحاج، إن مشروع الجابري الأخير عن «فهم القرآن» «يمثل إضافة لفهم السيرة النبوية، قبل أن يكون إضافة لفهم القرآن».
وبعيداً عن سيرة اشتغاله على مشروعات باهظة الكلف في النظر إليه ضمن مجاميع متربصة، وأخرى على استعداد لقولبة ما أراد، عانى الرجل من ارتفاع في ضغط الدم منذ العام 1987، وهو ضغط أحسب أنه نتاج اعتلال في نظر وتعاطي بعضهم مع ما أنجز وحقق، قبل أن يكون اعتلالاً نتيجة تحول في فيزياء الجسد.
في استدراك لابد منه، حين أنهى الجابري كتابه «فهم القرآن الحكيم...» العام 2008 كان يفكر في مشروع «نقد العقل الأوروبي»، وكان من بين مشاريعه أيضاً بحث في علوم الحديث.
استدرك ثانية، لأشير إلى شهادة الداعية السعودي المعروف، سليمان العودة في أحد لقاءاته مع إحدى القنوات الفضائية، بعد أسبوع من رحيل الجابري، تناول في اللقاء طبيعة الانتقال من فكر إلى مدرسة، عدا الانتقال من مذهب إلى آخر، مشيراً إلى أن التعاطي مع الجابري يجب أن يتم من خلال انتقالاته تلك وإلى أين وقف، ومن العيب وعدم المروءة أن يتم التعاطي معه من خلال منطلقاته الأولى ضمن التقسيم العقيدي والفكري؛ فيما أثنى على مشروعه الأخير «فهم القرآن الحكيم» على رغم تحفظه عن بعض معالجاته ورؤاه في بعض مباحث مشروعه.
وتجاوزاً لاستدراكين، تحضر مقولته في لقاء سليمان بختي: «لست من القائلين بأن المجتمع العربي في أزمة» لا يعني الجابري حقيقة كفره وعدم يقينه بوجود أزمة في المجتمع العربي، إنه يترك مساحة من أمل... يتيح فضاء وإن كان افتراضياً بإمكان تجاوز ذلك المجتمع لأزماته، وذلك جزء من مهمة الباحث/ المفكر أن يترك مساحة من أمل تخلصه من جهة من أحكامه التي كثيراً ما تكون مسبقة، ومن جهة أخرى، يترك للصيرورة التاريخية مساحتها تفاعلاً وأخذاً وتجاذباً؛ كي تحدث نوعاً من التحول في تلك الأزمة، بوعي منه أن تلك المساحة ليست من اختصاصه ولا يملك مفاتيح توجيهها.
ظل الجابري مؤرقاً من كيفية نقل الفكر من النخبة إلى الجماهير، وهو تؤرق مبعثه البنية السياسية والمتاح من هامش ذلك النقل في ظل منظومة فوضى/ سياسية انتابت الدولة واعترتها، وبالتالي كانت مؤثرة ورافدة لمنظومة من الفوضى عمت الحال العربية في عمومها.
وفي الحديث عن «إرادة النهضة وإرادة الفعل وإرادة المستقبل والعمل والكفاح من أجل هذا المستقبل وتركيزه على الـ «لابد»، يبدو الجابري مأخوذاً هو الآخر بحال الفرض ليس على مستوى منظومة تفرض وتقر ولكن انتقالاً وحالاً من التبني لحال الفرض تلك لاستدراج الإرادة المغيبة وربما استفزازها.
أقرَّ الجابري بأن القوة الذاتية الشعبية في الوطن العربي غير منظمة، وغير مهيأة للعقل التاريخي، فثمة غياب للعقل الذي يتطلبه التطور، وهو غياب بالمناسبة مبعثه العقيدة المتفشية في المصادرة والحجز والمنع.
وهو صاحب أهم وأعمق مشروع في «نقد العقل العربي» لا يمكن أن تتسرب وتنسل من بين مبحثه/ مباحثه مسألة القياس. إذ يقول: «عامل القياس قيد آخر على العقل العربي» وهو بذلك يثير حفيظة مدارس – ليست فقهية فقط – ضاربة في التأصيل والتأثير، حين يضع القياس الذي اعتمدته في خانة القيد! لكأن القياس – أي قياس – في أي ممارسة كانت، فقهية أو قانونية أو حتى أخلاقية قيد ماثل أمام جرح لصدقية الاجتهاد في الفقه والقانون وحتى الأخلاق. إنه محاولة لإدخال العقل في إجازة مفتوحة. إجازة في الغيبوبة!
العدد 2834 - الأربعاء 09 يونيو 2010م الموافق 26 جمادى الآخرة 1431هـ