كيف يمكن احتواء مشكلة الأقليات في الشرق الأوسط؟ الوثيقة الفاتيكانية التي رفعت للنقاش في مؤتمر روما في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل تتحدث عن «زوال المسيحيين» واضمحلالهم العددي بسبب النزوح أو الهجرة إلى الخارج أو الانزواء الاجتماعي وعدم الإنجاب ما يهدد التوازن الديموغرافي ويلغي التنوع الذي اشتهرت به المنطقة تاريخياً.
أهمية الوثيقة أنها تجرأت في فتح ملف خطير تتهرب السلطات المحلية من الإجابة عن أسئلته. فالموضوع في جوهره بات يحتاج إلى قراءة حتى تكون المنطقة مستعدة للتعامل مع مشكلة ستترك تأثيراتها السلبية على نموذج تميز بالاختلاف عن تجارب دول الغرب في معالجة هذه المسألة الحضارية. والتهرب من الإجابة عن الأسئلة قد يفتح الملف على تدخلات أجنبية يمكن أن تتطور سياسياً في حال استغلت الدول الكبرى الأزمة كما حصل في العراق (الأكراد) أو السودان (الجنوب) أو المغرب (الأمازيغ).
خطورة الملف تكمن الآن في الجانب الثقافي إلا أن المسألة يمكن أن تنزلق إلى توتر سياسي يعطي ذريعة للتدخل تحت يافطة حماية الأقليات من اضطهاد الأكثرية. ومثال دارفور في السودان يعطي فكرة عن صورة عامة لا يستبعد أن تتبلور في أمثلة مشابهة أخذت تتعرض لها بعض الدول العربية (مشكلة الأقباط في مصر مثلاً).
سؤال كيف يمكن السيطرة على ملف الأقليات في المشرق يتطلب قراءة موضوعية للمشكلة حتى يتم التوصل إلى جواب معقول للأزمة. وثيقة الفاتيكان أشارت إلى الاحتلال الإسرائيلي والتدخلات الأجنبية والحروب الخارجية وعدم احترام حقوق الإنسان وأنانية الدول الكبرى وغيرها من أسباب أعطت فرصة لقوى الشر بالنمو والانقضاض على الأقليات وتخويفها ما دفعها إلى الهجرة أو النزوح خوفاً من القتل أو الاضطهاد أو التمييز.
الوثيقة لا تتحدث عن خطة مدروسة أو برنامج عمل أو مشروع تصفية (فرز عرقي أو ديني) تعتمده السلطات المحلية ضمن جدول يلبي حاجة فريق أكثري يطمع نحو تكوين مجتمع متجانس في طبيعته الديموغرافية الدينية أو القومية أو اللونية أو المذهبية. النزوح أو الهجرة أو الهرب الذي تحدثت عنه الوثيقة جاء بسبب الفوضى وعدم الاستقرار واضطراب الأمن الناجم عن الحروب المفروضة وضعف السلطة وغياب أجهزة الدولة والفراغ الناجم عن العبث بالوطن وحياة المواطنين. وأدى هذا الفضاء إلى تعريض مصالح كل الفئات للخطر ودفع الكثير من السكان للنزوح إلى ملاذات آمنة بحثاً عن مكان تتوافر فيه ضمانات تلبي حاجات الهاربين. بهذا المعنى لا تشير الوثيقة إلى وجود خطة مدبرة تتعمد طرد المسيحيين من المشرق بل إنها تؤكد على أن المخاوف عامة تشمل أيضاً الفئات المسلمة بسبب تصادف اختلافها المذهبي في المنطقة التي كانت تسكن فيها.
الوثيقة بذلت جهدها في التركيز على الجانب الأمني وتداعياته السياسية الإجمالية ولم تذكر تلك العوامل المضافة التي ساهمت في تشجيع نمو ظاهرة البحث عن مجتمع متجانس في هويته الدينية والقومية (الأقوامية) واللونية والعرقية والمذهبية. فهذه الظاهرة جديدة نسبياً في العالم العربي (الإسلامي) وهي بدأت بالازدهار في مطلع القرن الماضي حين أخذت النخبة تبحث عن هوية بديلة بعد انهيار السلطنة العثمانية وسقوط المشرق تحت الاحتلال البريطاني – الفرنسي والبدء في تأسيس «إسرائيل» في ظل الانتداب.
جذور المشكلة قديمة ولكن نموها جاء بعد أن استثمرتها دول الغرب في فلسطين لتبرير قيام دولة في أرض عربية – مسلمة. وأدت النكبة (مصادرة الأراضي وطرد السكان) إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة والمحيط ما برر ظهور نزعات سياسية متطرفة تنظر إلى «الأقليات» بوصفها قوة أجنبية متآمرة أو متعاملة مع الخارج وتطمح إلى الاستيلاء على السلطات لفرض شروطها على الأكثرية بالتعاون مع الاستعمار والغرب الأوروبي.
تهمة الاستقواء بالغريب شكلت ثغرة في البناء الهرمي للعلاقات الأهلية في المشرق العربي وأسست لاحقاً ظاهرة التشكيك بولاء الأقليات وعدم احترامها أو اكتراثها للصالح العام والمصالح المشتركة. واستمرت هذه الثغرة بالنمو والاتساع منذ أن نفذت حكومة «الاتحاد والترقي» التركية سلسلة إعدامات في بيروت ودمشق ضد مجموعات سياسية اتهمت بالاتصال بالسفارات الفرنسية والبريطانية خلال الحرب العالمية الأولى.
المجموعات التي أعدمت شنقاً لم تكن تنتمي إلى دين واحد أو مذهب معين وإنما شملت شخصيات من كل الأصناف والهويات إلا أن المخاوف السياسية أصابت الجميع في اعتبار أن تهمة «التعامل» و «الخيانة» وعدم «الولاء» أصبحت عادة يومية في التعامل اللاحق بين الناس والسلطات البديلة التي توطدت مواقعها المحلية بعد خروج الجيش العثماني من بلاد الشام ودخول القوات البريطانية – الفرنسية القدس وبيروت ودمشق وبغداد.
هذا المتغير الجيوبوليتكي الذي عصف بالمشرق العربي في مطلع القرن العشرين ساهم في ترسيم خطوط توتر بين الأقليات في بيئة جغرافية حساسة في تكوينها الديموغرافي. وزاد الطين بلة نمو حركة الاستيطان في فلسطين برعاية الانتداب البريطاني الذي أخذ يشجع نزوح المجموعات اليهودية من أوروبا بقصد تعديل التوازن السكاني حتى تكون الوقائع الميدانية جاهزة حين تأتي لحظة الإعلان عن قيام دولة «إسرائيل».
إعلان الدولة الذي تصاحب مع تخثر العدالة وانكشاف «الديمقراطية» الأوروبية كان مناسبة لانتشار سياسة الاتهامات بالخيانة في كيانات وطنية حديثة التأسيس ما فتح الباب أمام انقلابات عسكرية تبحث عن شرعية إيديولوجية تبرر سيطرتها على السلطة عنوة. وهكذا تحولت المنطقة إلى ساحات تجاذب للصراعات الدولية المعطوفة على تنافسات أهلية – حزبية تتدافع لكسب ود الأقليات تحت مظلات قومية أو علمانية أو يسارية مقابل انكفاء الأكثريات في إطارات تقليدية تتخوف من وجود مؤامرات خارجية تريد السيطرة على ثروات الأمة وإلغاء هويتها التاريخية.
في ظل هذا التوتر العالي دفعت كل الأقليات و«الأكثريات» أيضاً ثمن الفوضى وعدم الاستقرار ونمو نزعة الشوفينية والانغلاق مقابل ضمور حسّ الانفتاح والتسامح والتساكن. الضريبة السياسية كانت مرتفعة ونالت المجموعات الأهلية المسيحية النصيب الأعلى بسبب تعرضها لتهمة عدم الولاء وازدواجية الهوية في فلسطين أو لبنان أو العراق.
المشكلة الآن تجاوزت الأقليات المسيحية وأصبحت تتمدد لتطاول مجموعات أهلية مسلمة متخالفة مذهبياً أو أقوامياً أو لونياً أو عرقياً. كذلك أخذت ترتد على مجموعات أكثرية تعيش مصادفة في مناطق ذات صبغة طائفية أو صفاء عرقي ولوني في بعض كيانات المشرق العربي أو السودان. هذه المشكلة الممتدة تتطلب فعلاً الإجابة عن أسئلة طرحتها وثيقة الفاتيكان للبحث والمراجعة انطلاقاً من تخصيص المسألة في دائرة واحدة. فالكلام الآن لم يعد يقتصر على اضمحلال المسيحيين في المشرق وإنما عن احتمال غياب نموذج إسلامي فريد من نوعه عن مسرح التاريخ.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2834 - الأربعاء 09 يونيو 2010م الموافق 26 جمادى الآخرة 1431هـ