كثيراً ما تختلط الأمور على المتابع للشأن العربي بل وعلى بعض الفاعلين في هذا المجال ولعل أخطر مظاهر هذه الحالة من الخلط والارتباك هي حالة الخلط بين الحرب والسياحة وبين العمل الجاد وبين الخطابة البلاغية، فيعتقد البعض انه عندما يلقي خطبة عصماء تتسم بالبلاغة والإنشاء والإطناب والصياح انه حقق الغرض.
ويعتقد البعض أنه إذا خرج في سفينة تحمل الأعلام البيضاء، وتطلق على نفسها أي اسم جميل مثل الحرية فإن المعارضين سوف يقابلونه بالأحضان والقبلات على إنسانيته وشعاراته الجميلة، والحقيقة أنه شتان بين هذه الحالات المتنوعة ولعل مصطلح الحرية هو من أكثر المصطلحات دموية عبر التاريخ فباسم الحرية وقعت مجازر رهيبة إبان الثورة الفرنسية وغيرها من الثورات وباسم الديمقراطية وقعت مجازر في العراق وأفغانستان، وباسم نشر الحضارة والمدنية شهد العالم الحقبة الاستعمارية البغيضة، ولذا فإن فيلسوفاً مصرياً عربياً حديثاً هو الدكتور زكي نجيب محمود كان من أكثر المدافعين والداعين لتحديد معاني الكلمات والمصطلحات حتى لا يختلط الحابل بالنابل ويعتقد الناس أننا نعيش في وضح النهار والحقيقة أننا نعيش في ظلام دامس وليل حالك السواد.
ولقد كان جمال عبد الناصر الزعيم العربي الشجاع أكثر صراحة في الإقرار بالهزيمة في العام 1967 بعكس الكتاب والصحافيين المداهنين الذين أطلقوا عليها اسم النكسة وأدى ذلك لاستمرار رفض الاعتراف بالحقائق في الفكر العربي المعاصر فشهدنا كوارث أحاطت بالدول ودمرت الأوطان وأطلق عليها أصحابها الانتصار وخرجوا يتفاخرون يتباهون بمثل هذا الانتصار في خطب عنترية واعتبروا أن الانتصار هو بقاء هذا الزعيم أو الحزب أو الحركة السياسية في السلطة في خلط غير علمي وغير موضوعي بين الفرد الحاكم وبين الوطن مهيض الجناح.
وفي هذه الأيام تصادفنا ذكرى أليمة هي يوم الخامس من يونيو/ حزيران وهي ذكرى هزيمة العام 1967 والتي عانت منها مصر والعالم العربي اشد المعاناة ولم تزل آثارها في المنطقة العربية ولكننا لم نخرج بل بقينا محصورين فكرياً في تزييف الحقائق على المستوى العربي بل والإسلامي في عملية غريبة من قلب المصطلحات واستخدامها استخداماً غير علمي وغير صحيح.
ولعل أول خطوات التغيير المنشود هو التوصل لتحديد سليم للمصطلحات ووسائل العلاج. وفي تحليل الأسباب الحقيقة للهزيمة وكيفية علاجها، يمكن أن نستعيد للذاكرة المقولة المشهورة لكاتب مصر الكبير الذي لم يغير فكره وجلده، كما فعل آخرون ما زالوا على قيد الحياة، حتى توفاه الله، وهو الأستاذ احمد بهاء الدين الذي أوضح بعد الهزيمة أن المعركة بيننا وبين إسرائيل هي معركة حضارية. والحضارة في تقديري تعني أشياء عديدة ولكن ثلاثة أشياء في المقدمة وهي التحليل العلمي الموضوعي للأمور، الاعتراف بالحقائق مهما كانت مريرة، والمعالجة العلمية سعياً لإحداث التغيير بعيداً عن خداع النفس. وهذا يقتضي ما قال عنه شعراء العرب، عبر العصور، باعتبار أن الشعر هو بيت العرب ودار حكمتهم، توافر ثلاثة أمور الإرادة والعلم والمال.
وبقدر سروري بأسطول الحرية بقيادة السفينة التركية مرمره، فقد هالني رد الفعل العربي المغيب والذي صور الشهداء والجرحى والمبادرة الإنسانية ذات البعد الدعائي والإعلامي، بأنها عمل يمثل النصر غير المسبوق وأطنب خطباء بعض المساجد في دول لم تساهم بشيء في الحروب السابقة، وذهب منها نفر يعدون على أصابع اليد الواحدة، على ما سمي أسطول الحرية، وحملوا معهم بعض الأدوية ومعلبات للأكل، وكأنهم حققوا نصراً مبيناً، والأكثر إثارة للدهشة أنهم طالبوا مصر بفك ما يسمى بالحصار على غزة، وكأن مصر هي التي تفرض هذا الحصار، رغم أن أسطول الحرية به عدد من المصريين، ورغم أن الرئيس مبارك أمر بفتح معبر رفح، ولكن الجانب الفلسطيني في غزة رفض فتح البوابة التي من ناحيته، ورغم أن غزة في حصارها المفروض من إسرائيل، والمفروض من ذاتها وقياداتها، تتغذى على الكثير من السلع المصرية التي ترد إليها بوسائل شرعية وأحياناً بوسائل غير شرعية، ورغم مبادرات مصر وجهودها لرأب الصدع الفلسطيني، ولكن بعض الأطراف يرفضون، بمقولات سفسطائية، ويظلون يتحاورون ويوجهون الاتهامات لبعضهم البعض حتى تحترق كل فلسطين، وهذا أمر يثير بالغ الدهشة والاستغراب ويدعو للتساؤل ولم يحدث في أية ثورة تحررية من قبل في العالم العربي أو إفريقيا أو آسيا أو أميركا اللاتينية، أن يتنازع أصحاب المصلحة على شيء وهمي، أي سلطة وهمية افتراضية، لم تتحقق، وهو نزاع باطل كما ذهب إلى ذلك علماء الإسلام في فقه المعاملات بأن بيع ما ليس موجوداً هو بيع فاسد وباطل.
المهم أن كل هذا الأحداث والمهرجانات المرتبطة بالنصر وبأسطول الحرية يمكن للمرء أن يعتقد أن الدولة العثمانية بعثت للحياة وأن قائدها سليم الفاتح قد عاد لقيادة العالم الإسلامي وان الخلافة الإسلامية تم إعادتها، تحت شعار أسطول الحرية، وانه تم غزو إسرائيل وهزيمتها وإقامة الدولة الفلسطينية على أنقاضها، ولم يعرف كثير من هؤلاء المحتفلين والخطباء حقيقة وطبيعة العلاقات الدولية والعلاقات الثنائية بين الدول، ونسوا أو تناسوا شهداء مصر التي ضحت بمئات الآلاف عبر السنين والحروب والمعاناة والدمار الاقتصادي الذي لحق بها، وانه يكاد ألا يخلو بيت مصري من شهيد في الحروب مع إسرائيل، كما نسوا أو تناسوا أن قطاع غزة يعيش في جانب كبير منه على الأطعمة والأغذية والدواء الذي يذهب من مصر وعبر معبر رفع إلى الإخوة الفلسطينيين، وان السياسة المصرية والدبلوماسية وأجهزة الأمن المصرية تقضي الكثير من وقتها وجهدها في الدفاع والدعاية للقضية الفلسطينية عبر السنين، وهذا كله إيمانا بوحدة المصير وبعدالة القضية الفلسطينية، ولكن الشعب المصري كغيره من الشعوب له مطالبه وله احتياجاته، وكدولة عليها التزاماتها وتقديرها للأمور ولأساليب النضال ولا تؤمن بالديماجوجية والغوغائية، ولا ترهن علاقاتها بوطنها لمصلحة دولة أخرى لمجرد أوهام أيديولوجية والرغبة في الظهور، وفي نفس الوقت يتألم كل مصري مما يمكن أن نطلق عليه نكران الجميل، لهذه العلاقة الاستراتيجية التي يؤمن بها، والتضحيات التي قدمها ويقدمها، من قبل بعض أصحاب القضية وحقا قال الشاعر العربي:
وظلم ذوي القرب أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند
ولا نقلل من دور أية دولة عربية أو إسلامية أو غيرها في تقديم مساعدات وتضحيات، ولكن ما نعترض عليه ونرفضه تماماً كمفكرين وكمصريين وعروبيين نؤمن ببلادنا وبعروبتنا وبإسلامنا، أن يتخذ آخرون قرارات فإذا ثبت أنها قرارات خاطئة أو أنها جرت نكبات وأدت إلى تضحيات صاحوا أين مصر وأين العرب وأين المسلمين، وهذا ما يدعونا للمطالبة بإعمال الفكر والتروي والتبصر قبل اتخاذ أي قرار والتشاور، ويدعونا لرفض الاتهامات الباطلة التي يطلقها المخلفون عن القتال والذين يتنكرون لتضحيات الآخرين وهم أنفسهم لم يقدموا عشر مثل هذه التضحيات.
إن كثيرا من العرب والمسلمين خاضوا الحرب بالتصريحات والمقالات العنترية ومن الفضائيات ونقول لهؤلاء إن الحرب ليست نزهة وليست فسحة على شاطئ البحر وان الصراع الحقيقي مختلف تماما عما يحدث، وان على الدول العاقلة الرشيدة عدم الانسياق وراء الحماس بل تقدير الأمور تقديرا سليما. إن المشكلة الحقيقة التي نعيشها هي فيما يتسم به العقل العربي من الخلط بين الأمور، بين ما هو حقيقي وما هو مأمول فيه... لقد جرى للأسف إغلاق العقل العربي وتغييب الوعي العربي منذ بضع سنين تحت الشعارات التي صورت بأنها حقائق وتحت التفسيرات الخاطئة لبعض النصوص الدينية بل الأخطر الاعتماد على ما يبثه العدو من دعايات وتصويرها بأنها حقائق وهي جزء من الحرب النفسية وإثارة الفتنة بين العرب بعضهم بعضاً وبين المسلمين بعضهم بعضاً. وللأسف ينساق بعضنا وراء ذلك ويستشهد بما تكتبه الصحافة الإسرائيلية وكأنه الحقيقة بعينها، ولعل ذلك من اكبر مشاكل مصر مع الكثير من الجماهير والقيادات العربية.
لقد أصبح العقل العربي يتسم بسمات أربع هي:
الأولى: التفكير الماضوي وليس المستقبلي.
الثانية: العيش في الآمال وليس في الواقع.
الثالثة: اختلاط المفاهيم بصورة عكسية.
الرابعة: الرضا الذاتي مهما كانت النتائج أو ردود الأفعال.
وليس مجال تحليل هذه السمات ومظاهرها وآثارها والأسباب التي أدت لظهورها في مقال. وقد عالج كثير من الكتاب والمفكرين هذه الحالة. ولكن ما يثير الشجون هو استمرار حالة التأزم المستمر في العقل العربي التي تؤدي عادة إلى ثلاثة نتائج خطيرة: أولاها: العمل العشوائي غير المخطط وغير المدروس وثانيها: الصياح والصراخ واتهام الآخر ومناشدته للتحرك والمساعدة ثم ادعاء النصر رغم ما حققه التصرف من كوارث. وثالثها: ضياع الوقت والزمن الحاضر انتظارا لمستقبل قادم تتغير فيه الأحوال والأوضاع وكلما مرت مرحلة زمنية اكتشفنا أننا نزداد عجزا وضعفا وتشتتا، ويزداد غيرنا قوة وصلافة وعدوانية وغطرسة لأنه يعيش في حقائق ويبنيها بعمله ونحن نعيش في أوهام انتظارا للفرج والنصر من المجهول. ومن ثم أصبح العقل العربي،أو ما أطلق عليه المفكر البحريني الكبير الدكتور محمد جابر الأنصاري، في حالة التأزم الفكري، في العديد من كتبه ومنها «التأزم السياسي في الفكر العربي، والعرب والسياسة أين الخلل، ومساءلة الهزيمة»، وغير ذلك من مؤلفاته. أو كما أطلق عليه مفكرو الماركسية ذوو الطابع العملي بأنها مراهقة فكرية يسارية أو يمينية حسب كل مرحلة.
والأكثر إيلاما للنفس أن كثيراً من القيادات السياسية العربية والمفكرين لا يدركون مفهوم الحرب، وهي من بديهيات الحياة السياسية عبر العصور. وندعو هؤلاء لقراءة بعض الكتب العلمية في هذا الصدد، والتي كتبها أصحابها عن خبرة عملية وعلمية في نفس الوقت، أما نحن في العالم العربي فقد أصبح لدينا الكثير من الجنرالات في الفضائيات الذين لم يخوضوا حرباً ولم يقرؤوا كتاباً، وكثير من السياسيين الذين ثقافتهم السياسية من
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 2834 - الأربعاء 09 يونيو 2010م الموافق 26 جمادى الآخرة 1431هـ
تسلم يا محمد باشا
شكرا لك .. مقال جميل
تحليل واقعي. للاسف الحقيقة أحياناً مؤلمة
تحليل واقعي. للاسف الحقيقة أحياناً مؤلمة