تحتاج حكومة بنيامين نتنياهو إلى فترة حتى تنجح في ترميم الصورة التي تحرس تل أبيب على إظهارها في الإعلام الأوروبي. فالصورة تشوهت أمام الكاميرات وانكشفت الكثير من خفاياها بعد تعرض «قافلة الحرية» إلى هجوم عسكري أسقط ضحايا وجرحى من جنسيات مختلفة في المياه الدولية.
الجانب الإعلامي يشكل ظاهر الصورة المرئية في المشهد السياسي، وهو يمثل المظهر الأخلاقي لدولة تدعي دائماً احترام حقوق الإنسان في محيط لا يكترث كثيراً لهذه المسألة. إلا أن الجوانب السياسية الأخرى التي أسفر عنها الهجوم لا تقل أهمية في ارتداداتها عن تلك الصور المرئية.
التداعيات السياسية تجاوزت الحدود وهي أرسلت إشارات واضحة عن وجود متغيرات أخذت ترتسم معالمها على أصعدة مختلفة. مجلس الأمن اجتمع وأصدر بيانه مطالباً بالتحقيق الشفاف في الموضوع. الولايات المتحدة أعربت عن أسفها لسقوط ضحايا ولم تمانع في تشكيل لجنة محايدة تشرف على كشف الملابسات. الاتحاد الأوروبي استنكر وأبدى تعاطفه مع «قافلة الحرية» وطالب بفتح تحقيق عن خلفيات الحادث. بيانات استنكار وشجب تلاحقت بالصدور من عواصم وهيئات ومنظمات دولية وإقليمية وكلها أجمعت على تحميل حكومة تل أبيب مسئولية الكارثة.
ردود الفعل الإعلامية مهمة حتى لو كانت مؤقتة ولا تعكس بالضرورة تحولات في المواقف السياسية. وأهميتها تكمن في أنها صدرت ضد حكومة إسرائيلية تعود العالم التعامل معها من موقع الحذر خوفاً من تهمة «اللاسامية» واضطهاد الأقليات. وجرأة الإعلام في انتقاد القرار الإسرائيلي يؤشر إلى نمو تيار أخذ يتمرد على توجيهات تقليدية تأمر بالتعاطف مع سياسة دولة بغض النظر عن صحتها.
هذا الاختلاف الخجول في التعامل مع «إسرائيل» يشكل بحد ذاته نقطة إيجابية يمكن البناء عليها في المستقبل إذا نجح الجانب الفلسطيني في استثمارها لتوضيح الزوايا الأخرى المتصلة بالاحتلال والاقتلاع والتهجير ومصادرة الأراضي وبناء المستوطنات.
هل أصبح الجانب الفلسطيني في موضع يسمح له بعدم التفريط بهذه الفرصة أم أنه سيخسرها بسبب سياسات التزاحم الحزبي والتنافس على القشور؟ حتى الآن لا تظهر في الأفق علامات تؤكد أن المسار الفلسطيني سيعيد بناء خطواته في إطار هيكلي يرتب الأوراق وفق تدرج يعطي الأفضلية للأولويات بدءاً من رفع الحصار وانتهاء بالمصالحة الوطنية وتوحيد الشارع لمواجهة التمدد الاستيطاني واستعادة الأراضي المحتلة وبناء دولة مستقلة.
غياب الوحدة عن المشهد الفلسطيني يشكل ثغرة في جدار الموقف المطلوب وطنياً لاستكمال مسيرة المقاومة المدنية التي باتت تحظى بقبول دولي. حتى الولايات المتحدة لا تستطيع تجاهل الحد الأدنى الذي تطمح السلطة إلى تحقيقه بناء على تصورات وضعتها الدول الكبرى وصاغتها في بيانات وقرارات دولية.
هذا الإجماع على تأييد الحقوق البسيطة والمتواضعة يتطلب في المقابل وحدة فلسطينية تمنع «إسرائيل» من التلاعب والولايات المتحدة من التهرب بذريعة الانقسام وعدم وجود طرف يمتلك صلاحية شرعية للتفاوض. وتأخر الجانب الفلسطيني في التوصل إلى صوغ لقاء وطني على جدول أعمال يتميز بالوضوح في أولوياته يمكن أن يساهم في تفويت الفرصة وغيابها بعد انتهاء موجة الغضب التي امتدت إعلامياً في أوروبا وأميركا والعالم الإسلامي.
هناك متغيرات لابد من استثمارها. الموقف الأميركي بات على خط تقاطع ويحتاج إلى دفعة حتى يتحرك باتجاه العمل على الوفاء بالالتزامات الدولية. أوروبا تنتظر إشارة من الولايات المتحدة حتى تنشط في سياق ميداني يفتح الباب لملفات تتصل بموضوعات مصيرية تصب في مجملها لمصلحة القضية. المزاج التركي الذي أظهر فعالية أكثر من المتوقع يمكن أن يرفع من درجة اليقظة العربية وربما يساهم في تعديل خريطة التوازنات الإقليمية التي انكسرت بعد سقوط بغداد في العام 2003.
كل هذه المتحولات يمكن أن تتراجع أو تتلاشى في حال تأخر الجانب الفلسطيني في اتخاذ الخطوة المطلوبة باتجاه المصالحة وإعادة ترتيب الوحدة على قاعدة برنامج وطني يعتمد خطة أولويات تتجنب خلط الأوراق أو الغرق في خطابات حماسية تبالغ في تصوراتها وطموحاتها.
التموضع الفلسطيني على قاعدة الوحدة السياسية يساعد على ضمان عدم التفريط بالفرصة التي قدمتها حكومة تل أبيب بسبب تهورها وتكبرها وتشاوفها على دول المنطقة. وهذه الفرصة ليست دائمة وإنما مرهونة بفترة زمنية يمكن أن تتبخر في حال تأخر القطار عن موعده. الجانب الإسرائيلي في الزاوية ويحتاج إلى فترة لترميم الصورة التي تشوهت أمام الكاميرات وانكشفت خفاياها بعد الهجوم على «قافلة الحرية»... ولكن الفترة ليست مفتوحة زمنياً باعتبار أن تل أبيب بدأت تخطط لهجوم معاكس تستعيد بموجبه ما فقدته من رعاية ودعاية.
هل يصل القطار الفلسطيني إلى المحطة في الموعد أم يفرط بالفرصة لمصلحة الهجوم الإسرائيلي المعاكس؟ الإشارات حتى الآن تبدو سلبية.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2829 - الجمعة 04 يونيو 2010م الموافق 21 جمادى الآخرة 1431هـ