تشكلت من خلال الحربين الاميركيتين على كل من أفغانستان والعراق نماذج لحروب جديدة غير مسبوقة، غريبة في دوافعها وذرائعها وحيثياتها، الأمر الذي دعا بعض الكتاب والمحللين إلى تسميتها بـ «حروب ما بعد الحداثة» تيمنا بما حققه مصطلح الحداثة من انتشار فكري وثقافي وسياسي، ولعل تسميتها بـ «الحروب مسبقة الصنع» جائز أيضا. أضف الى أن الاميركيين لم يكونوا بعيدين أبدا عن ديناميات التسمية حين سبقوا غيرهم الى اعتماد مصطلح «الحروب الاستباقية».
على أية حال ليست التسمية وحدها هي التي تبعث على الدهشة أو المفاجأة في عملية انفلات مفردات جديدة يمكنها أن تكسر كل ما حولها مثلما تكسر ألحان الصرعة الجديدة نمطية الموسيقى السائدة قبلها التي سميت - بحسب علمنا - (التخت الشرقي)، بل ان ما يبعث على الدهشة أيضا ملامح وسمات «الحروب الاستباقية» التي يمكن ايجازها في الآتي:
1- الجهة الوحيدة في العالم التي تملك حق اعلان الحروب الاستباقية هي الولايات المتحدة بموجب مناقصة جرت عشية الحوادث المأسوية في سبتمبر/ايلول 2001، ولها وحدها حق المقاولة من الباطن، أي اشراك متعهدين ثانويين بصفة حلفاء.
2- تشن الحروب الاستباقية لأسباب اقتصادية واستراتيجية كثيرة وغير معلنة، أما الذرائع المعلنة لهذه الحروب فمحصورة في ثلاث فقط: هي القضاء على الارهاب، والقضاء على النظم اللاديمقراطية، وتدمير أسلحة التدمير الشامل. هذا مبدئيا ولكن سرعان ما تتكشف الأسباب الحقيقية وتظهر لحظة سقوط الخصم خطوط حمراء لا يستطيع أحد الاقتراب منها، فقد رأينا كيف كانت جميع وزارات الدولة ومرافقها في بغداد مباحة تماما، باستثناء وزارة النفط.
3- يتبدل في هذه الحروب، وبشكل كاريكاتوري الظرف الذي يقع عليه عبء الاثبات بحيث يصبح المدعى عليه عوضا عن المدعي، وذلك بخلاف القواعد الحقوقية العامة التي استقرت عليها الشرائع والقوانين، ومن بينها قاعدة (البينة على من ادعى واليمين على من أنكر)، ولقد سمعنا هذه المخالفة الفاضحة في ادعاء الادارة الاميركية منذ سبتمبر الماضي امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، وأن عليه أن يثبت خلوه منها (!)، ولكن كيف يمكن لهذا الاثبات المقلوب أن يتم؟ فالواقعة السلبية يستحيل اثباتها، لكن أحدا من أصحاب الرأي في العالم المحكوم بالاحادية القطبية لم يجبنا حتى الآن عن هذا السؤال.
4- توضع في «الحروب الاستباقية» وفي آن واحد، سيناريوهات مشتركة لكيفية تدمير المدن وكيفية اعادة اعمارها ثانية، وتحدد سلفا اسماء (الشركات الراغبة في تقديم مناقصاتها الى الادارة الاميركية) مع مراعاة التواريخ والمهل ودفاتر الشروط والمواصفات الفنية اللازمة لمشاهد أبنية المدن المحترقة بمن فيها من جهة ولـ «ماكيتات» أبنية ومكتبات ومتاحف بديلة.
5- يتمتع جنود «الحروب الاستباقية» لحظة استراحة المحاربين بمهارة تقديم فقرات رياضية واستعراضية ومسرحية أمام جمهور البلد المحتل بالقدر ذاته من مهارات قتلهم ونسف منازلهم عندما تعاود المعارك كرها وفرها.
6- تقوم الطائرات المشاركة في «الحروب الاستباقية» بإلقاء كميات من الغذاء على أرض الخصم يحدد سقفها الأعلى بالكميات ذاتها من القنابل والصواريخ التي سبق لهذه الطائرات إلقاؤها.
7- يلعب الإعلام المرافق لقوات الاحتلال دورا خطيرا جدا تستطيع الحروب الاستباقية من خلاله - والى حد ما - استرداد شرعيتها المفقودة دوليا وأخلاقيا وبأثر رجعي، لقد تمكن الاعلام المرافق للحرب العدوانية على العراق أن يحول المشاهد المؤلمة الحزينة يوم سقوط بغداد الى ما يشبه الفرح الكرنفالي بقدوم الاميركيين
العدد 282 - السبت 14 يونيو 2003م الموافق 13 ربيع الثاني 1424هـ