لا تبنى الديمقراطيات بمجرد تنظيم الأحزاب السياسية وإجراء انتخابات حرة ونزيهة فحسب. وإذا كانت فرصة المواطنين محدودة في توصيل آرائهم إلى ممثليهم خلال الفترات الانتخابية ومساءلة من ينتخبونهم على ما يتخذونه من قرارات، فإنهم إنما يسلمون ممثليهم شيكات على بياض طوال مدة انتخابهم. لكن مفتاح البناء الناجح للديمقراطيات والإصلاحات الاقتصادية هو الحكم الديمقراطي الصالح الذي يشمل التقاليد والمؤسسات والإجراءات التي تحدد كيفية صنع قرارات الحكومة بصفة يومية.
ويحتاج الحكم الديمقراطي الصالح إلى وسائل يمكن للمواطنين بواسطتها المشاركة بصفة منتظمة في صنع السياسات. وتخشى الحكومات في الغالب أن يؤدي ذلك إلى جعل عملية صنع القرار بطيئة، لكن كلما كانت عملية صنع القرار أكثر شمولا لجميع الأطراف، كلما كانت القوانين واللوائح والإجراءات الصادرة عنها أكثر استجابة لاحتياجات المواطنين. وكذلك يحتاج الحكم الديمقراطي الصالح إلى مؤسسات قابلة للمحاسبة والمساءلة حتى لا تسيء استخدام السلطة. وتميل القواعد الدستورية السلطة. وتميل القواعد الدستورية التي تنظم كيفية توزيع السلطة ومراجعتها وموازنتها، والتي تسمى في الغالب الآليات الأفقية للمساءلة، إلى أن تكون مؤثرة في الحيلولة دون إساءة استخدام السلطة الكبرى وفي تعزيز الاستقرار. ومع ذلك هناك حاجة إلى آليات إضافية للحد من سوء استخدام السلطة المرتبطة بالأعمال الروتينية أو اليومية أو المكتبية. وهنا يأتي الدور الذي يلعبه الحكم الصالح.
كيف يضمن المواطنون أن تقوم الحكومة، وخاصة تلك الهيئات التي لا تقع مباشرة تحت رقابة الأعضاء المنتخبين، بالوفاء بالتزاماتها وتطبيق وتنفيذ السياسات المذكورة بسرعة وبطريقة سليمة ومستقيمة؟ وماذا يحدث عندما يتعرض المواطن للضرر بسبب فعل أو قرار قامت به الحكومة أو أخفقت في القيام به؟ من الواضح أن عمليات التصويت المتقطعة ليست كافية لحل مثل هذه المشاكل. وبالمثل، يعتبر الدخول في قضايا ضد الحكومة لحل المشاكل الصغيرة أو المسائل الروتينية أسلوبا مضيعا للوقت وباهظ التكاليف وغير عملي. ومن ثم يحتاج الحكم الديمقراطي الصالح أيضا إلى آليات يتمكن المواطن من خلالها وبطريقة نظامية وغير مكلفة من التظلم من الإجراءات الحكومية بما يؤدي إلى تحسين فعالية الحكم الصالح.
الحكومات ذات المؤسسات القابلة للمساءلة والمحاسبة تكون أكثر قدرة على ممارسة الحكم الديمقراطي وبالتالي تتمتع بدعم جماهيري أكبر. أما الحكومات التي ليست لديها المؤسسات القابلة للمساءلة والمحاسبة فإنه من المحتمل ألا يعاد انتخابها، وقد تعاني من عدم الشرعية وقلة الكفاءة ومجموعة أخرى من المشاكل الأخرى.
يعد تجاهل الحكم الديمقراطي الصالح تقصيرا له آثاره السلبية الخطيرة على كافة المستويات الفردية والمحلية والإقليمية والدولية. وتخفق الكثير من الديمقراطيات الناشئة والاقتصادات القائمة على أساس السوق في التمسك بالحريات الأساسية وتعاني من تفشي الفساد وسوء البنية الأساسية وانخفاض معدلات النمو الاقتصادي وانتشار الأمراض وظهور العنف في بعض الأحيان لأنها خالية من المؤسسات القابلة للمحاسبة والمساءلة. وقد يكون غياب الحكم الديمقراطي الصالح هو المسئول عن فشل الكثير من الدول رغم المبالغ المالية الهائلة التي تلقتها كمساعدات أجنبية خلال العقد الماضي.
ويؤدي سوء أداء الدول إلى انخفاض الشرعية وانخفاض الدعم المقدم إلى الأنظمة الديمقراطية القائمة على أساس السوق. ويفقد المواطنون في كثير من الدول ثقتهم في أنظمتهم الديمقراطية وإصلاحات السوق لأنهم في غالبية الأحيان لا يستفيدون شيئا من الإصلاحات الاقتصادية أو من الأنظمة السياسية الديمقراطية. ولكنهم عوضا عن ذلك، يجدون أن المستفيدين الوحيدين من الإصلاحات هم موظفو الحكومة الفاسدة وقليل من الصفوة.
أما المواطنون الذين استفادوا قليلا من عملية التحول وأصبح لهم صوت ضعيف في عملية صنع السياسات فإنهم يصبحون هدفا لأولئك الذين يريدون قلب الأوضاع السياسية الرئيسية والنكوص عن الإصلاحات الاقتصادية. وقد رأينا أخيرا في الكثير من الديمقراطيات والاقتصادات الناشئة حدوث توافق بين الاشتراكية والقومية وشيوع الملكية والإرهاب بقصد التصدي للدول الهشة والعدول عن عملية الإصلاح. وفي بعض الحالات تكون عملية التحول كلها خاضعة للتهديد.
إقرأ أيضا لـ "جون سوليفان "العدد 2814 - الخميس 20 مايو 2010م الموافق 06 جمادى الآخرة 1431هـ