شهدت الساحة الداخلية في مملكة تايلند توتراً كبيراً ومتصاعداً خلال الشهور الثلاثة الماضية، وكانت أكثر المناطق التي شهدت العنف هي مدينة بانكوك العاصمة، وساد التشدد بين الأطراف المتصارعة كافة مما أدى إلى عشرات القتلى ومئات المصابين.
وإلقاء نظرة متفحصة على هذه الأوضاع وتطوراتها يظهر لنا عدة حقائق:
الأولى: ان الصراع بين الحكومة برئاسة ابهيسيت فيجاجيفا من ناحية، وقوى المعارضة التي أطلق عليها أصحاب القمصان الحمراء لارتدائهم هذا اللون ومعظمهم من مؤيدي رئيس الوزراء المخلوع تاكسين سيناواترا، الذين صعدوا مطالبهم من الدعوة لاستقالة الحكومة وإجراء انتخابات جديدة وحل البرلمان وانسحاب قوات الجيش من الميادين العامة، وإطلاق الحريات إلى المطالبة بأن تشرف الأمم المتحدة على وقف إطلاق النار وتحقيق المطالب المشار إليها. وقد رفضت الحكومة هذه المطالب وأصرت على موقفها بضرورة إنهاء المتمردين لتمردهم وبدء مفاوضات غير مشروطة.
الثانية: ان الصراع في تايلند ليس حديثاً، وإنما له جذوره العديدة والعميقة، ولعل من جذور هذا الصراع ثلاثة عوامل:
الأول: تراجع قوة النظام الملكي التايلندي التقليدي وكبر سن الملك ومن ثم ضعف سلطته الفعلية والروحية، رغم أنه مازال يحظى باحترام ومكانة.
الثاني: تزايد تدخل العسكريين في السلطة السياسية منذ قيامهم بانقلاب العام 2006 وإطاحتهم برئيس الوزراء المنتخب تاكسين سيناواترا ورغم أن قادة الجيش أجروا انتخابات حرة، أعادت سيناواترا للسلطة مما عكس شعبيته، إلا أن المحكمة الدستورية قد أجبرته على الاستقالة في ديسمبر/ كانون الأول العام 2008 في حكمها القضائي بأنه ارتكب مخالفات، وقام بأعمال غش في الانتخابات، وذلك بناء على احتجاجات وقضايا أقامها أنصار الحكومة الحالية واعتبرت حكومته غير شرعية.
الثالث: اختلاف توجهات الحكومتين، فحكومة سيناواترا أكثر اهتماماً وتعبيراً عن القوى الفقيرة وخاصة في المناطق الشمالية من تايلند، وله قواعده الشعبية في تلك المناطق، فضلاً عن مساندة كثير من القوى المهمشة ومنها المرأة، بخلاف حكومة فيجا جيفا الذي له أنصاره الكثيرون في المدن.
إذن الخلاف بين الاتجاهين مرجعه اعتبارات اقتصادية واجتماعية، فضلاً عن الاعتبارات السياسية. وأدى إسقاط حكومة سيناواترا إلى تجدد الصراع والتمرد من قبل أنصاره، وتصاعد حركتهم الاحتجاجية واعتصاماتهم ومظاهراتهم وإقامتهم في معسكرات في مدينة بانكوك مما أربك وسط العاصمة خاصة والحياة العادية في بانكوك بوجه عام إلى عدة مناطق داخل تايلند، ولكن الضوء الإعلامي عليها أقل من ذلك المسلط على العاصمة وأحداثها.
وزاد من عملية التوتر أربعة أمور:
الأول: قيام قوات الجيش بالتدخل بناء على طلب الحكومة وإطلاق النار بالذخيرة الحية على المتظاهرين مما أدى إلى قتل وإصابة المئات منهم.
الثاني: قيام السلطات التايلندية بمحاصرة المعسكرات والمناطق التي يقيم بها المتمردون ومطالبتهم بالانسحاب والانصراف بعيداً عن معسكرات التمرد حفاظاً على حياتهم، ولوحت لمن ينصرف إلى حال سبيله، بالعفو عنه، ومساعدته في الانتقال إلى موطنه في أمان وسلام.
الثالث: إصابة الجنرال خاتايا سواسديبول Khattiya Sawasdipol إصابة خطيرة مما أدى إلى وفاته بعد إخفاق محاولة علاجه، وهو الجنرال الذي كان بمثابة القائد والمستشار العسكري للمتمردين، وهو ما ألهب مشاعرهم.
الرابع: إزاء تشدد الموقف الحكومي من مطالب المتمردين فقد سيطر المتشددون منهم على حركة التمرد. وهكذا زاد التشدد من الجانبين.
ولقد طرحت عدة تساؤلات بحثية من قبل المعلقين الدوليين حول مدى شرعية مطالب متمردي القمصان الحمر، وحول إمكانيات الحل اللازمة ومدى تأثيرها على الاقتصاد والاستقرار في تايلند،
وفي محاولة للإجابة على تلك التساؤلات فإنه في تقديرنا أن الأوضاع في تايلند اتسمت بمجموعة من الظواهر السلبية، في مقدمتها التمرد الذي حدث العام 2006 وإجبار حكومة سيناواترا على التنازل عبر الانقلاب العسكري، مما خلق سابقة غير حميدة في العمل السياسي في تايلند التي كانت دولة شبه مستقرة، ولكن الأكثر سوءاً هو إجبار الحكومة للمرة الثانية على الاستقالة العام 2008 بحكم قضائي من المحكمة الدستورية، واضطرار رئيسها لمغادرة البلاد خوفاً على حياته، وتولي المعارضة السلطة. إذن هناك سابقتان لإجبار حكومة جاءت إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع لمصلحة حكومة أو سلطة معارضة مما خلق نوعاً من الانشقاق في المجتمع التايلندي وجعل مفهوم الإطاحة بالحكومة التي في السلطة يأتي عبر وسائل التمرد، وليس من خلال صناديق الاقتراع. مثل هذا التصور والممارسة لا تعبر عن التوجه الديمقراطي للدولة. وزاد الطين بلة تدخل الجيش في العمل السياسي بالانقلاب العسكري مرة، واستخدامه العنف ضد المتظاهرين مرة أخرى، وهو ما أدى إلى وقوع ضحايا منهم وردهم على العنف بإحراق مركبات للجيش.
ولاشك أن حفظ الأمن والنظام من ضرورات استقرار أي مجتمع وهذا مهمة الشرطة، وليست مهمة الجيش إلا في حالات الضرورة القصوى الطارئة، وثبوت عجز الشرطة عن معالجة الموقف.
ثم إن مطالب المعارضة بإقالة الحكومة وإجراء انتخابات جديدة تستمد شرعيتها من السوابق، ومن اتساع عملية التمرد مما يهدد بحدوث حرب أهلية، وأية سلطة مهما كانت شرعية لا تلجأ للحوار المجتمعي وإطالة أمده وتفكيك القوى المعارضة بأساليب سلمية مع اللجوء للعنف أو القوة في حدها الأدنى.
وفيما يتعلق بإمكانيات حل الأزمة ففي تقدير المحللين هناك منهجان، المنهج السلمي والذي ينبغي أن تكون له الأولوية بمحاصرة المتمردين والضغط غير العنيف عليهم بهدف إضعافهم هذا من ناحية، وتقديم بعض التنازلات استجابة لبعض مطالبهم من ناحية أخرى. والمنهج العنيف وهو ما اتبعته السلطات والحكومة التايلندية حتى الآن وهو يقوم على رفض تقديم أية تنازلات والالتجاء للجيش لقمع وضرب المتمردين. والمنهج الأول من المحتمل أن يفضي إلى حل إيجابي، بخلاف المنهج الثاني الذي يغذي الخلاف ويعمقه ويثير الأحقاد بين القوى السياسية المتنافسة في المجتمع التايلندي.
ولكن انتهاج المنحى السلمي من الصعب القيام به بالنسبة لأي طرف من الأطراف المتصارعة وخاصة عندما يتشدد المتصارعون في مواقفهم، ومن ثم فمن الضروري الالتجاء إلى قوة خارج هذه الأطراف للمساعدة في الوصول إلى حل. ويمكن تقسيم هذه القوى إلى نوعين:
الأول: قوى من داخل المجتمع التايلندي نفسه، وهنا نشير إلى القوة المستمدة من الملك ودوره في النظام السياسي وتاريخه ومكانته الأدبية، وإمكانية أن يتدخل ويقدم حلاً وسطاً، ويوجه نداء للشعب لقبوله حقنا للدماء وإنهاء للتوتر. أما القوة الثانية فهي الجيش الذي يمكنه أن يشرح للحكومة القائمة أن مهمته الدفاع عن الوطن، وليس التدخل في الصراع السياسي لصالح هذا الطرف أو ذاك، وهنا سوف تضطر الحكومة لإبداء بعض المرونة وتقديم بعض التنازلات وبدء عملية حوار بناء بين الطرفين.
الثاني: قوى من خارج المجتمع والدولة، وهنا يمكن الإشارة إلى ثلاث قوى الأولى قيام مجموعة الآسيان التي تنتمي لها تايلند بتحرك للوساطة بين الأطراف، أو قوة إقليمية وبخاصة الصين أو الهند, وأخيراً الأمم المتحدة التي يمكنها القيام بتحرك أكثر ديناميكية وليس مجرد إصدار نداء أو بيان، وإنما قيام الأمين العام نفسه بزيارة لتايلند، والتباحث مع كافة الأطراف المتصارعة واقتراح بعض الخطوات التي تبدأ بالتهدئة، وتنتهي بالحل، وتعيين مبعوث خاص له لمتابعة ذلك في إطار دبلوماسية مكوكية بين كافة الأطراف، ويمكن أن يعزز من دور الأمين العام للأمم المتحدة صدور قرار أو نداء من مجلس الأمن باعتبار الحالة في تايلند تهدد السلم والأمن الدوليين، والطلب من الأمين العام بمتابعة الموقف وبذل مساعيه وتقديم تقرير خلال فترة وجيزة.
وفي حالة إخفاق الحلول الوطنية، أو الحلول الدولية أو عدم القيام بها، فإن الموقف في تايلند سيكون مرشحاً لمزيد من التدهور وهناك عدة احتمالات أو سيناريوهات. أولها: التحول إلى حرب أهلية، وثانيها: تدخل الجيش والذي قد يؤدي إلى انشقاق في صفوفه وسقوط مزيد من الضحايا.
وثالثها: تدهور الاقتصاد التايلندي نتيجة حالة عدم الاستقرار السياسي وهذا سيزيد من تفاقم الموقف ومن الاضطرابات. هذا وقد بلغت خسائر الاقتصاد التايلندي خلال الشهور الماضية من الأزمة حوالي 3 مليارات دولار. ورابعها: التجاء الحكومة إلى استخدام القوة، وفي هذه الحالة لا تستطيع أية قوة معارضة مدنية الصمود، وهو ما يبدو أنه حدث في اللحظات الأخيرة صباح 19 مايو/ أيار.
وفي تقديرنا أن اللجوء للتمرد والاعتصامات والعنف تعد من الوسائل غير المجدية، وإنما الالتجاء إلى صناديق الاقتراع، وإلى الإعراب عن الرأي أو التظاهر السلمي هي الوسائل التي تتبعها القوى السياسية في الدول المتقدمة ولها نتائجها، حتى وإن كانت بعيدة المدى؛ لأن العنف لن يولد إلا عنفاً مضاداً، أما التفاهم والحوار فيؤدي إلى التوافق وإلى التعاون بين قوى المجتمع، مهما اختلفت توجهاتهم وآراؤهم، والعمل السياسي المجتمعي يقوم على التوافق، وليس على فرض أحد الأطراف وجهة نظره على الآخر، والخضوع إلى قواعد العمل السياسي وفقاً للقوانين والقواعد المتاحة في كل مجتمع، وليس من المنطقي لجوء قوة مدنية إلى رفض التفاوض واحترام القوانين لأن الالتجاء للعنف في حالة حدوثه سيكبد الجميع ضحايا لأن السلطة المسلحة في يد الحكومة الشرعية.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 2813 - الأربعاء 19 مايو 2010م الموافق 05 جمادى الآخرة 1431هـ