تسعى السياسة الأميركية إلى إلحاق دول المنطقة بمجهودها الحربي وتوجهاتها الإستراتيجية واعتبارات مصالحها. وهي من أجل ذلك تعمل على إلحاق قرارات حكومات المنطقة وجعلها تابعة ومستجيبة لإستراتيجيتها.
الجذور التاريخية للعلاقة مع دول الحماية
تنطلق سياسة الولايات المتحدة, من الوضع التاريخي لعصر الحماية والتحالف البريطاني مع الأسر الحاكمة في المنطقة وفي الوطن العربي عامة, وما تبعه بعد الاستقلال من ترتيبات أمنية وعسكرية ومعاهدات وعلاقات معها.
ويذكر أن علاقة الدول الغربية الكبرى مع دول المنطقة, تقوم على أساس تفاهم مع الأسر الحاكمة ومقايضة ضمان استمرار حكم الأسر وحماية السلطة المطلقة للحاكم مقابل أخذ الحكام «بنصيحة» القوى العظمى في الغرب والانسجام مع رؤيتها الإستراتيجية, في ظل الوجود العسكري والنفوذ الاقتصادي وإعطاء الأفضلية للمصالح الاقتصادية والتجارية للدول الأجنبية الحامية.
وقد نتج عن هذا التفاهم والتحالف والحماية, استمرار حكم نفس الأسر منذ بداية معاهدات الحماية مع بريطانيا في القرنين الماضيين, وما تلاه من تكريس للدور الأميركي الذي أخذ مكان بريطانيا وزاد عليه. ولذلك لم يتغير حاكماً في المنطقة بأي أسلوب كان, إلا بعد أن توافق الدول الحامية على تغييره وفقاً للأسلوب المناسب الذي تراه. وعلى من أراد الوصول للحكم من أفراد الأسر الحاكمة بالوارثة أو من خارجها, أن يتفاهم مع القوة الحامية مباشرة أو من خلال حلفائها الاستراتيجيين ويقوي علاقته بهم.
ويلاحظ هنا, أن دول الحماية اتخذت دائماً الموقف الداعم لحكومات المنطقة في مواجهاتها لحركات الإصلاح ومساعي التغيير السياسي وغطت سياسات حكومات المنطقة إعلامياً ودبلوماسياً إلى جانب القوة العسكرية, إن لزم الأمر.
وينتظر في المستقبل أيضاً أن تؤدي علاقات التبعية للولايات المتحدة وحلفائها, إلى استمرار المواقف السلبية بل المعيقة لهما, من كل إصلاح لأوجه الخلل المزمنة في المنطقة, حيث نرى مزيداً من اعتماد الغرب على نظم الحكم القائمة وتعزيز السلطة المطلقة للحكام, لسهولة التفاهم معهم على حساب طموحات الديمقراطية والتنمية والأمن الحقيقي في المنطقة.
وهذا ما عبر عنه الزميل محمد غباش (أستاذ علوم سياسية في جامعة الإمارات) عندما حلل أسباب الخلل المزمن في العلاقة بين السلطة والمجتمع في دول مجلس التعاون ووصف الوضع بأنه «سلطة أكثر من مطلقة ومجتمع أقل من عاجز», فقد كانت الحماية الأجنبية للحكام هي أحد المصادر الثلاثة لاستمرار خلل العلاقة بين الحاكم والمحكوم في المنطقة, إلى جانب الخلل السكاني والتحكم في سياسة إعادة توزيع ريع النفط.
تداعيات العلاقة مع الولايات المتحدة
سمحت علاقة التبعية هذه للولايات المتحدة وحلفائها في الوقت الراهن, بتحقيق دعوة «احتلال منابع النفط» دون غزو, وإنما بالتفاهم والضغط في ضوء الحاجة إلى المظلة الأمنية إلى جانب الحماية التقليدية. وقد كان غزو العراق للكويت وانهيار الاتحاد السوفياتي واحتلال العراق, وما نتج عنها من انكشاف للنظام العربي وتآكل الإرادة الوطنية في المنطقة, كلها عوامل أدت إلى تحقيق إستراتيجية الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة وأمّنت مصالحها المشروعة وغير المشروعة فيها.
ولعل الهيمنة على قرار النفط وتوظيفه كورقة تفاوضية ضد الشركاء التجاريين للولايات المتحدة, هي من بين المصالح التي تم ضمانها في الوضع الراهن. فلم يعد تأمين إمدادات النفط هو المهم فقط, وإنما أصبح استخدام النفط كورقة ضغط وتفاوض مع الشركاء التجاريين حتى الأوروبيين منهم إضافة إلى الصين والهند وأمثالهما, من بين المكاسب. هذا إلى جانب العودة المباشرة لعهد الامتيازات والدور المباشر لشركات النفط الكبرى في تطوير وإنتاج وتكرير الزيت, وتسييل وتصنيع الغاز الطبيعي في المنطقة.
ونلاحظ أيضاً أن الأخوات السبع (شركات النفط الكبرى) قد عادت إلى دول المنطقة, وأصبحت تضمن هيمنتها تدريجياً على صناعة الزيت والغاز والبتروكيماويات. وفي هذا ضمان لسهولة استخدام ورقة النفط من قبل الولايات المتحدة وإلى جانب ورقة النفط ضمنت الولايات المتحدة لنفسها النصيب الوافر من استثمارات الفوائض النفطية وتسخيرها لسد عجز الميزانية العامة للولايات المتحدة, حيث يذهب إلى الولايات المتحدة ما يزيد على نصف تلك الفوائض التي تناهز 2 تريليون دولار, يوجه ثلثها لإقراض الميزانية الأميركية. كما يذهب ربع آخر من الفوائض النفطية للاستثمار في السوق الأوروبية. هذا إلى جانب ارتباط معاملات وعملات دول المنطقة بالدولار.
وإلى جانب المصالح الإستراتيجية والنفطية تحصل الولايات المتحدة وحلفاؤها على معظم مشتريات السلاح الضخمة وعقود شركات الأمن والأجهزة والنظم الأمنية. يضاف إلى ذلك تحمل دول المنطقة جزءاً من التكاليف المالية للوجود العسكري الأجنبي فيها, فضلاً عن المخاطر المترتبة على وجوده.
مخاطر الاعتماد على الولايات المتحدة
ويأتي خطر سياسة الولايات المتحدة وحلفاؤها من طبيعتها العدوانية على المستوى العسكري, إضافة إلى توجهها الإقصائي على المستوى الثقافي, حيث تقوم توجهات الغرب عامة وفي عصر العولمة خاصة على تثبيت قيم ومصالح وعقائد الحضارة الغربية, ونفي قيم وعقائد ومصالح الحضارات الأخرى.
الأمر الذي يؤدي إلى صدام الحضارات, الذي قال بيه هنتجتون نتيجة لقراءة دقيقة قام بها, لتوجهات النخب الغربية التي وصلت للحكم في بداية عصر القطبية الواحدة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي, والتي لم يكن هناك بداً من صراعها مع الحضارات الأخرى وصدامها القادم مع الحضارة الإسلامية والحضارة الصينية بشكل خاص, لما يتوقع أن يبدياه من رفض ومقاومة.
وأذكر أنني كنت لمدة طويلة, أبحث عن معرفة ما يريده الغرب من الآخرين كي أفهم إلى أين نحن سائرون, فوجدت شيئاً منه عند نعومي شومسكي في كتابه إعاقة الديمقراطية.
يفسر شومسكي الصراع العنيف ومن ثم الحرب الباردة بين الغرب الرأسمالي والاتحاد السوفياتي وما شابهه من نظم اشتراكية على مدى سبعة عقود, إلى محاولة تجاوز تلك النظم للخطوط الحمراء التي حددها الغرب والتي تتمثل في ثلاثة ممنوعات على الدول الأخرى:
أولها: التوجه إلى حماية الأسواق الداخلية وإعاقة حرية التجارة, التي يجد فيها الغرب مجالاً لتصريف منتجاته في أسواق الدول الأخرى, مستفيداً من تقدمه التقني وإمكانية الإنتاج على نطاق واسع.
ثانيها: حرية انتقال رأس المال الغربي للاستثمار المباشر ومشاركته المباشرة, حيث وجدت موارد وفرص للاستثمار في أي دولة كانت.
ثالثها: يتمثل في الوقوف بشدة وحسم ضد كل دولة تسعى لتنمية رادع عسكري يعيق استخدام الغرب لقوته العسكرية المتفوقة حين يشاء دون ردع.
ويتضح مما سبق أن التحالف غير المتكافئ بل التبعية للولايات المتحدة, قد أدى وسوف يؤدي إلى توظيف إمكانيات دول المنطقة وموقعها الاستراتيجي لخدمة سياسات عدوانية تجاه الآخرين ليس من مصلحة حكام المنطقة وشعوبها معاداتهم. وأصبحت هذه التبعية اليوم تنذر بمخاطر جمة في حالة الاعتداء على إيران أو حصارها أسوة بما يسميه الغرب بدول «محور الشر».
كما أن الصراع القادم بين الولايات المتحدة والصين لمنعها من أن تكون قطباً ينافس هيمنة القطب الواحد منذ عشرين عام, سوف يعرض المنطقة إلى مخاطر هي غنية عنها.
وهذه المخاطر لا تتوقف فقط على تعرض المنطقة للرد على الأعمال العسكرية المنطلقة من مياهها وأراضيها, وإنما تتضمن مخاطر صحية وبيئية لوجود أسلحة دمار شامل فيها. كما تؤسس للعداء مع دول تربطنا بها وشائج ومصالح.
وإلى جانب هذا كله هناك ما هو أخطر إذا استمر معطيات الاعتماد على الحماية الأجنبية وفشلت الشعوب في القيام بالضغط الفعال على النظام الإقليمي والنظام العربي من أجل القيام بحماية نفسيهما.
وهذا الخطر الماحق يتمثل في انزلاق دول عربية - لا قدر الله - ووقوعها تحت حماية إسرائيل بالأصالة أو الوكالة.
وهذا ليس خطراً مستبعد بل إن بوادره ظاهرة
إقرأ أيضا لـ "علي خليفة الكواري"العدد 2802 - السبت 08 مايو 2010م الموافق 23 جمادى الأولى 1431هـ
اعجبني المقال
مقال و تحليل جيد