السياسة في المفهوم العلمي هي: السعي لتحقيق المصالح. وعلم السياسة هو فن تحقيق المصالح في إطار من التوازن، من هذا المنطلق نتناول السياسة الهندية بين العرب وإسرائيل. ولقد سارت تلك السياسة في ثلاث مراحل، الأولى: الاقتراب من العرب والابتعاد عن إسرائيل وهي من استقلال الهند ونشأة إسرائيل حتى العام 1992. واتسمت تلك المرحلة بالسمات التالية:
الأولى: الاعتراف الرسمي بإسرائيل وإقامة علاقات قنصلية معها مع الحرص على علاقات قوية مع الدول العربية اعتماداً على المصالح الاقتصادية والمشاركة التاريخية في مواجهة الاستعمار وتحت تأثير المسلمين الهنود في السياسة الهندية بوجه عام.
الثانية: تبلور علاقات عسكرية وثقافية تطورت بوجه خاص بعد هزيمة يونيو/ حزيران 1967، وتراجع القوة العربية الشاملة.
الثالثة: تباطؤ ومحدودية التعامل الدبلوماسي الهندي مع إسرائيل خاصة منذ حرب 1973، وبروز القوة العربية النفطية وحاجة الهند للنفط العربي.
الرابعة: اهتمام الهند بعلاقاتها الخليجية بعد الفورة النفطية الأولى وتراجع اهتمامها بالعلاقات مع مصر وخاصة بعد عقد معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية.
كان محور علاقات الهند العربية في تلك المرحلة يدور حول عدة قضايا في حقوقها:
1 - قضية باكستان وكشمير، حيث سعت الهند الحد من تطور العلاقات العربية الباكستانية وعدم مساندة العرب للموقف الباكستاني في كشمير.
2 - قضية فلسطين، حيث أعربت الهند عن مساندتها لهذه القضية بقوة منذ نشأتها وحتى أوائل الثمانينيات من القرن العشرين. ثم أخذت تلك المساندة في التراجع تدريجياً فأبدت الهند قرار إلغاء مساواة الصهيونية بالعنصرية وتزايد تطور العلاقات الهندية الإسرائيلية حتى وصلت لمرحلة الاعتراف الكامل.
3 - حركة عدم الانحياز والدور الهندي الدولي، وقد برز ذلك في عقد الخمسينيات والستينيات ثم بدأت الحركة في التراجع رويداً بفقدان فرسانها الثلاثة نهرو بعد هزيمته أمام الصين العام 1962، ثم عبدالناصر بعد هزيمته أمام إسرائيل في العام 1967، وتكاد تكون انتهت بعد موت تيتو وتقسيم يوغوسلافيا السابقة في أواخر عقد الثمانينيات من القرن العشرين وغير ذلك من الأحداث، وإن بقيت الحركة تعيش في غرفة الإنعاش.
4 - التعاون الدولي من أجل التنمية وذلك في إطار مجموعة الـ 77 وفي اجتماعات الأمم المتحدة ومنظماتها بهدف الحصول على دعم لمواقف الدول النامية وفي مقدمتها الهند.
أما المرحلة الثانية فبدأت عملياً منذ منتصف الثمانينيات وإن كانت رسمياً بدأت في العام 1992، حيث تمت إقامة علاقات دبلوماسية كاملة بين الهند وإسرائيل واتسمت تلك المرحلة بالسمات الآتية:
1 - اتجاه الهند للتوازن في علاقاتها ومواقفها الرسمية السياسية بين العرب وإسرائيل مع الميل نحو الحياد.
2 - تزايد نمو العلاقات الهندية الإسرائيلية في المجالات العسكرية والتكنولوجية والاستخباراتية والاقتصادية.
3 - تراجع العلاقات الهندية العربية وحاصة مع مصر وسورية، وظلت علاقات الهند قوية مع دول الخليج بما في ذلك العراق.
4 - حدوث تطور كبير في العلاقات الهندية الإيرانية اقتصادياً وسياسياً ارتبط بعدة عوامل أولها النفط والحركة الوطنية الإيرانية وخاصة في عهد مصدق في أوائل الخمسينيات من القرن العشرين، ثم الثورة الإسلامية الإيرانية في عهد الخميني العام 1979، وأخيراً التطورات في أفغانستان.
وكانت محاور الحركة لعلاقات الهند الدولية في تلك المرحلة هي:
- التقارب الهندي الأميركي وسعي الولايات المتحدة للاستفادة من الحساسيات والتنافس الهندي الصيني لدفع الهند لتكون القطب المناوئ للصين.
- التقارب الهندي الإسرائيلي بدعوى الانتماء إلى مجموعة النظم الديمقراطية، وللاستفادة من اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة، فضلاً عن التعاون التكنولوجي والعسكري بين الهند وإسرائيل.
- الحفاظ على العلاقات الودية التاريخية الهندية مع دول رئيسية مثل مصر وسورية والعراق مع برودة في أنشطتها السياسية، ولقد برز ذلك بوجه خاص في العلاقات المصرية الهندية، مع تركيز العلاقات الهندية الخليجية على الاقتصاد والتجارة والاستثمارات والعمالة الهندية.
والمرحلة الثالثة هي المرحلة الراهنة وبخاصة منذ الحرب الأميركية (الكونية) ضد الإرهاب. وقد اتسمت هذه المرحلة بالآتي:
1 - توافق هندي شبه كامل مع الموقف الأميركي والمفهوم الأميركي للإرهاب، وحملتها ضد ما سمي بالإرهاب الإسلامي، بل واستفادت الهند من ذلك في قضية كشمير، والجماعات المعارضة لها هناك، وفي مواقفها ضد باكستان وكذلك من مشكلة أفغانستان.
2 - السعي لتنشيط العلاقات الهندية مع كل من باكستان وإيران في اتجاه وتوجهات مختلفة، فمع باكستان اتسمت العلاقات بالمد والجزر وسادتها الشكوك المتبادلة، ولكن القاسم المشترك أصبح الخوف من الجماعات الأصولية، ووجود السلاح النووي لدى كل من الهند وباكستان. أما مع إيران فكان النفط والغاز والتجارة والاستثمار، وفي الوقت نفسه تشابه الموقف من التطرف الإسلامي في أفغانستان وأثره على الهند وإيران مع بعض الاختلافات في التفاصيل، وفي الوقت نفسه التأثير على علاقات إيران مع باكستان، وخاصة الموقف الإيراني من قضية كشمير، وهو ما أدى إلى تراجع هذا الموقف في عهد الثورة الإسلامية عما كان عليه في عهد الشاه.
ولكن الهند كدولة ذات تراث ديمقراطي وممارسة ديمقراطية عريقة وكذلك دبلوماسية مشهود لها بالكفاءة، ومراكز أبحاث لها دورها في اتخاذ القرار، وكقوة عسكرية واقتصادية وتكنولوجية صاعدة، فقد سعت لإعادة التوازن في علاقاتها مع العديد من القوى الدولية، وفي مقدمتها الصين التي زاد حجم التبادل التجاري إلى عشرين مليار دولار العام 2008، ويتوقع أن يصل إلى 30 ملياراً بنهاية العام 2010، ومع باكستان سعت للحد من التوتر، ومع إيران سعت للحصول على أهدافها في النفط والغاز والاستثمارات ومع دول الخليج الشيء نفسه، بالإضافة إلى العمالة الهندية وهي أكبر الجاليات الأجنبية في دول الخليج، ولها دور بارز في العديد من المجالات الاقتصادية. ومع مصر حرصت الهند على التعاون السياسي وعلى التركيز بدرجة أكبر على تطوير استثماراتها مع مصر، وزيادات حجم تجارتها والتي بلغت 3.4 مليارات دولار العام 2009.
هذه لمحات عن تطور العلاقات الهندية بين العرب وإسرائيل وهي تؤكد على ثلاث حقائق:
الأولى: إن السياسة هي لغة المصالح وليست بالضرورة لغة المبادئ التي مجالها الأخلاق والدعاية أو الدبلوماسية الساذجة والقيادات غير الواعية لطبيعة العلاقات الدولية المعاصرة بل وعبر العصور.
الثانية: إن الهند حرصت على تعزيز مصالحها وتطورها ومكانتها الدولية بتوازن دقيق ومع أولويات متنوعة عبر المراحل الثلاث، ففي مرحلة المد الوطني التحرري وقوة العرب كانت أقرب لمصر وللدول العربية، وقضية فلسطين، وفي مرحلة التراجع العربي السياسي وهزيمة مصر وسورية اتجهت الهند للخليج لصعود قوته، ولإسرائيل لتزايد مكانتها الدولية، وفي مرحلة الهيمنة الأميركية أقامت معها شراكة استراتيجية مع الحفاظ على علاقات طيبة مع الاتحاد الروسي بعكس مرحلة المد الوطني التحرري وعدم الانحياز، فكانت العلاقات الاستراتيجية الهندية مع الاتحاد السوفياتي وفي الوقت نفسه أقامت علاقات اقتصادية وتجارية جيدة مع الولايات المتحدة، أما في المجال السياسي فكان يشوبها التوتر من حين لآخر لاختلاف الأهداف الدولية والإقليمية والوطنية لكلا الدولتين.
الثالثة: إن السياسة الهندية تتحرك في إطار مصالحها ومع تحرك وتوجهات السياسة الدولية ومراكز القوة الدولية والإقليمية وهي تعتمد على مؤسسات عريقة أقامتها الدولة منذ استقلالها أكثر من اعتمادها على الأفراد أو الزعامات، ومن ثم فإذا رغبت مصر أو الدول العربية أن تعيد مكانتها في العلاقات مع الهند فعليها أن تطور من فكرها الاستراتيجي وأن تبني قوتها الاقتصادية والعسكرية والعلمية والتكنولوجية حتى يكون هناك قاسم مشترك حقيقي ومصلحة متبادلة بين الطرفين، كما هو حادث الآن في متانة العلاقات الهندية الإسرائيلية التي ترتبط بالمصالح الوطنية لكل من الدولتين.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 2801 - الجمعة 07 مايو 2010م الموافق 22 جمادى الأولى 1431هـ
مقال رائع
احسنت .. فعلاً السياسة مصالح ويجب ان يكون هناك قاسم مشترك حتى تنجح السياسة ..