العدد 280 - الخميس 12 يونيو 2003م الموافق 11 ربيع الثاني 1424هـ

شباب الهجرة السرية : انتحاريون من أجل الخبز

صلاح الدين الجورشي comments [at] alwasatnews.com

.

أصيب أحد الصيادين الإيطاليين قبل أيام بصدمة قوية عندما وجد في شباكه بقايا أجزاء من جثث مهاجرين حاولوا الوصول إلى السواحل الإيطالية خلسة، لكن ابتلعهم البحر قبل أن يتحقق حلمهم الذي ضحوا بكل شيء من أجله. وقبل أشهر من هذا الحادث، وتحديدا خلال شهر سبتمبر/أيلول من السنة المنقضية، كان عدد من الشبان التونسيين القادمين من منطقة الساحل قد اقترب بهم المركب من الهدف، وفجأة أمرهم صاحبه بالقفز قبل مسافة طويلة من الوصول خوفا من أن يتفطن له حراس الحدود، فكانت النتيجة أن غرق كل من لم يكن يحسن السباحة.

يومها اهتز التونسيون وهم يشاهدون عبر الفضائيات جثث أبناء وطنهم ممددة على شاطئ جزيرة «لمبوزة» الإيطالية. وإذ قامت السلطات بمحاكمة المسئولين على تلك الكارثة، فإن الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان قد قررت من جهتها إخراج ملف الهجرة السرية من حال التحفظ والغموض، ودعوة خبراء ونشطاء ومنظمات غير حكومية لتسليط كل الأضواء على هذه الظاهرة التي انتشرت كالوباء في صفوف قطاع عريض من الشباب التونسي. وفي هذا السياق تتنزل الندوة التي نظمت في العاصمة التونسية (من 30 مايو/أيار إلى أول يونيو/حزيران) التي تناولت «رهانات الهجرة الجديدة في البحر الأبيض المتوسط»

نشطاء وجمعيات مختصة في قضايا المهاجرين وباحثون من تونس والمغرب وفرنسا وإيطاليا، حاولوا وضع إطار منهجي لفهم ظاهرة الهجرة السرية، دوافعها، آلياتها، تقييم السياسات الموضوعة لمواجهتها، ووضع اقتراحات لتفعيل دور المجتمع المدني المحلي في الحد من تداعياتها السلبية. وعلى رغم أن هذه الظاهرة عالمية، وموجودة في دول كثيرة، فإنهم ركزوا على المغرب العربي الذي تحول إلى منطقة عبور واستقطاب وتقاطع لحركات الهجرة السرية. واتفقوا على القول بأن تونس قد تحولت منذ التسعينات إلى منطقة عبور متقدمة لعدد متزايد من الراغبين في التسلل إلى اوروبا خلسة. لكن إلى جانب المقبلين من المغرب والجزائر ودول جنوب الصحراء الافريقية، وحتى عدد متزايد من الأتراك، هناك إقبال متصاعد من الشبان التونسيين على خوض هذه المغامرة الخطيرة والمخيفة.

تونس منطقة إلى الهروب والتهريب

يطلق في تونس على هذه الظاهرة مصطلح «الحرقان». وهي كلمة من ضمن معجم ضخم لألفاظ غريبة تم اختراعها للتعبير عن مخزون لمدلولات لغوية جد مأسوية، تحيل مستعملها أو سامعها إلى عالم من الرموز يجمع بين الإحباط والتوتر والمغامرة واليأس والأمل. فالمهاجر السري يقرر في البداية حرق كل وثائقه الشخصية حتى لا تعرف هويته ويعاد إلى موطنه. كما يحرق كل الحدود الجغرافية والثقافية التي تقف نظريا حاجزا بينه وبين ما يعتقده جنة الحرية والثروة. كما يحرق كل صلاته بماضيه البائس، إذ يستبد به الاعتقاد أن الهجرة ستمكنه من إنقاذ ذاته وتهريبها من عالم الضياع والجريمة.لكن ما هي سمات هذا المهاجر التونسي؟.

ثقافة «تهريب الذات» والمغامرة المدمرة

اشتغل عالم الاجتماع التونسي المهدي مبروك على «ظاهرة الهجرة السرية» منذ التسعينات، ما جعله أحد المختصين القلائل في دراسة هذه الظاهرة.وفي آخر بحث ميداني قام به شمل 60 حالة لشبان حاولوا التسلل وفشلوا، وهم موزعون بين منطقتين إحداهما ريفية قريبة من مدينة (المهدية) الساحلية التي شهدت الكارثة المشار إليها أعلاه. أما المنطقة الأخرى حضرية أبطالها يسكنون إحدى أكبر ضواحي العاصمة التونسية، والمعروفة باسم (دوار هيشر).ومكنه هذا البحث من اختراق العالم السري لهؤلاء «الحارقين». فهم تجمعهم البطالة، والانقطاع المبكر عن الدراسة على رغم تزايد عدد المتحصلين على البكالوريا و«تورط» بعض أصحاب الشهادات الجامعية الذين لم يجدوا منذ سنوات وظيفة قارة. وهي ظاهرة جديدة نمت بسرعة في تونس خلال السنوات الأخيرة، ما دفع ببعضهم إلى الإضراب عن الطعام للمطالبة بوظيفة، وقرر آخرون تكوين جمعية للدفاع عن هذه الشريحة المهمة من النخبة الجديدة. كما ينحدر الكثير ممن شملتهم الدراسة من عائلات فقيرة معظمها يعاني من التفكك الاجتماعي، وجميعهم مصاب بما سماه الباحث بـ «تورم المخيال» إذ يسيطر عليهم حلم «الجنة الأوروبية» التي تجمع بين المال والجمال.

وكشفت الدراسة أيضا أن الهجرة السرية في تونس لاتزال فردية وليست عائلية أو جماعية، وأنها شبابية إذ تتراوح الأعمار بين 19 و35 عاما. وهي ذكورية مع وجود مؤشرات على كونها مرشحة لكي تؤنث في المستقبل، إذ تشير بعض المعطيات إلى تزايد عدد التونسيات في شبكات البغاء بأوروبا. أما بالنسبة إلى الدوافع فثلاثة أرباع «الحارقين» يبحثون عن عمل، أما البقية فهم موزعون بين دوافع سياسية، أو هاربون من جرائم ارتكبوها خصوصا تلك المتعلقة باستعمال شيكات من دون رصيد. كما دلت الأبحاث على وجود ثقافة متكاملة أنتجها هؤلاء في خلواتهم، إذ لهم فنهم وشعرهم وأذواقهم ونظرتهم للمجتمع والحياة والوطن والوجود. لم يندموا على مدرسة فارقوها، ولا يعترفون بشهادات علمية فقدت الكثير من قيمتها الاجتماعية، كما تراجع لديهم الشعور بالانتماء إلى حد التمرد. حتى أن بعضهم عندما ينجح في الوصول إلى إحدى الدول الأوروبية يغير إسمه ويعمل جاهدا على إخفاء موطنه الأصلي.

شبكات... وتجارة رابحة

بينت الدراسات القليلة التي أنجزها علماء اجتماع أن معظم المناطق الساحلية التونسية أصبحت تستعمل من قبل شبكات تهريب محلية، وأن غالبية المدن أصبحت معنية بهذه الظاهرة الحديثة. وعلى رغم بساطة هذه الشبكات فإن لها آلياتها وتنظيمها ووسطاؤها، لكنها لم تبلغ قوة وامتداد الشبكات التركية التي بدأت تخترق المجال التونسي، وتندمج في علاقات تعاون مع الشبكات المحلية.لكن على رغم هذا العنصر الأجنبي الجديد، فقد بقيت الهجرة التونسية بعيدة عن المتاجرة بالبشر (الرقيق الأبيض) أو بأعضائهم كما يحصل في مناطق أخرى من المتوسط والعالم.

أوروبا: تغري ثم تفترس

الهجرة السرية ثمرة من ثمرات العولمة. فالتطورات الهيكلية التي حصلت داخل المنظومة الرأسمالية العالمية، أحدثت أضرارا فادحة بالتوازنات الاجتماعية داخل الكثير من دول الجنوب. وبذلك تعززت نسبة الفقر، واهتزت الأوضاع الاجتماعية وتعاظمت الفوارق بين الطبقات وانتشرت البطالة بشكل غير مسبوق. ويعتقد الباحث الإيطالي (سلفاتوري باليدا من جامعة جان) أن وراء الحرب الأوروبية المعلنة على الهجرة هناك مناورة خطيرة ولعبة خفية واستغلال فضيع للعمال السريين في أوروبا. فالحكومات اليمينية الأوروبية المتحالفة مع الرأسمالية المتوحشة تتظاهر من جهة بمقاومة الهجرة السرية، ومن جهة أخرى تترك عددا كبيرا من هؤلاء المهاجرين لقمة سائغة لقطاع خاص نهم لا يرحم. وضرب مثالا بالإشارة إلى أن 30 في المئة من الاقتصاد الإيطالي مصدره المهاجرون السريون الذين يتعرضون لاستغلال مزدوج، وفي أحيان كثيرة يقع تهديدهم بتسليمهم إلى الشرطة من أجل دفعهم إلى الهروب قبل أن يحصلوا على أجورهم الزهيدة. وأشار إلى أن حكومة برلسكوني حركت ملف المهاجرين قبل أشهر بهدف ابتزازهم، وهو ما ساعدها على تغطية عشرة في المئة من عجز موازنة الدولة.

وأوروبا لا تكتفي بهذه اللعبة المزدوجة والقاتلة، ولكنها تدفع بحكومات جنوب المتوسط إلى القيام بوظيفة الحارس الذي عليه حماية حدودها مقابل مساعدات مالية وضغوط سياسية. فالأوروبيون يضعون محاربة الهجرة السرية كشرط من شروط الشراكة الموعودة.ولكن أنى لهذه الحكومات أن تواجه زحف الآلاف من باحثي الشغل في ظل أزمات اقتصادية وسياسية مرشحة للتصاعد؟.

الجنوب يضطهد أبناء الجنوب

من بين الأسئلة التي طرحتها هذه الندوة هو: هل أن معضلة المهاجرين السريين تقف فقط عند دائرة دول الشمال؟. في هذا السياق أشار الأمين العام للفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان (إدريس اليازمي) في مداخلته إلى أن وضعية المهاجرين قد تكتسب أبعادا جد مأسوية داخل دول الجنوب نفسها. واستعرض في هذا السياق وضعية الفلسطينيين في لبنان. إذ بحجة التمسك بحق العودة، يمنع عليهم امتهان سبعين مهنة، ويحرم عليهم إدخال مواد بناء إلى المخيمات، وتبلغ البطالة في صفوفهم 40 في المئة، ويعيش الكثير منهم من دون هوية، وحديثا جرد الآلاف منهم من الجنسية التي حصلوا عليها من قبل.كما أشار أيضا إلى أوضاع السودانيين والصوماليين في لبنان وغيرها. وقد دار نقاش مطول عن انتهاك حقوق المهاجرين في الدول العربية مثل منطقة الخليج. وتحدث الجغرافي الفرنسي (أوليفييه) عن الحال الليبية التي شهدت منعرجا حادا بعد فتح الحدود أمام المواطنين الأفارقة. إذ على رغم الحركية الاقتصادية التي ولدها ذلك الاختيار، فقد خلقت من جهة أخرى صراعا حادا بين الأهالي وضيوفهم الجدد أدى أحيانا إلى مواجهات دامية خلفت وراءها عشرات القتلى.

الخلاصة التي يمكن أن يخرج بها المتابع لمثل هذه الندوات أن الهجرة السرية ظاهرة خطيرة ومعقدة، وأنها إفراز لعولمة ملغومة وسياسات محلية فاشلة على الصعيد التنموي. وهي بكل المقاييس مرشح للنمو والتوسع مهما بذلت الحكومات وأجهزتها الأمنية من جهود أو وضعت من حواجز. فالمهاجر السري يشبه من ناحية العزم والإرادة ملامح الشخص الاستشهادي الذي لا يثنيه عن قراره سوى الموت. لهذا أصبح من الضروري التعامل مع المحبطين في مجتمعاتنا بطريقة تكون أكثر حضارية وذكاء ونجاعة. هؤلاء يحتاجون إلى عمل، ومحيط يستوعبهم، وحكومات تتحاور معهم، وثقافة تؤصلهم في منابتهم، ونخبة تهتم بمشاغلهم وتطلعاتهم.أي أنهم في حاجة عاجلة لحمايتهم من التدمير الذاتي الذي تتسع رقعته بسرعة مذهلة

العدد 280 - الخميس 12 يونيو 2003م الموافق 11 ربيع الثاني 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً