قرية كوبر إلى الشمال الغربي من مدينة رام الله، حيث مسقط رأس المناضل القيادي في حركة فتح الفلسطينية مروان البرغوثي، الذي حوَّل زنزانته إلى جامعة يستأنف فيها دراساته العليا ـ عن طريق الانتساب ـ لظروف اعتقاله القسرية، التي فرضت عليه نمطا جديدا ومهما من أرقى أنماط التعلم الحديث، أعني «التعلم الذاتي Self Education» أي العصامية بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، فقد برز التعليم بوصفه حقا أصيلا من حقوق الإنسان الفلسطيني، بعد حصوله مؤخرا على درجة الدكتوراه بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف الأولى في مجال العلوم السياسية.

نعم... إنها مرتبة علمية أبعد ما تكون من السياسة، لماذا؟ لأن التعلم بالنسبة إلى البرغوثي بمثابة مسألة وجود لأي إنسان كائنا من كان، تماما كما طرح مناحيم بيغن مقولته «أنا أقاتل إذن أنا موجود»، ليردَّ عليه الشيخ أحمد ياسين بأنه «أنا أقاوم إذن أنا موجود»، واللافت في هذا السياق أن البرغوثي أسس لقاعدة استثنائية مفادها «أنا أتعلم إذن أنا موجود»! لتنتقل المعركة في وعيه من خلال ثنائية «البندقية وغضن الزيتون»، ليكمِّل كل منهما الآخر، فلا يمكن الفصل بين المسارين، فالرجل لا يزال يحمل بندقيته في إحدى يديه، وفي الأخرى غضن الزيتون (هاجس التعلم) كرمزٍ، أو كما يُعبر عنه في الأوساط الأكاديمية بـ (متطلب سابق Pre-requisite) للولوج في مجتمع المعرفة.

لقد جسَّد البرغوثي بإرادته حقيقة مفهوم «التعلم عن بُعد»، في وقت لا نستطيع توصيف عملية «التعلم عن بُعد» سوى أنها عملية قائمة بشكل أساسي على التواصل عبر الشبكة العنكبوتية، فكيف إذن بسجين يقبع خلف القضبان وفي عزلة تامة عن العالم الخارجي، وخصوصا أنه باحث في مجال العلوم السياسية، إذ إن المتابعة اليومية للأحداث السياسية والتطورات في المشهد الفلسطيني تشكل رافدا مهما وحيويا بالنسبة إلى أي باحث، فما بالك بشخص كالبرغوثي؟

واضح بأن همَّة البرغوثي ـ ذلك الإنسان المسكون بحب المعرفة ـ جعلته يستقرئ الواقع الفلسطيني أكثر من غيره ـ فهو يقضي خمس عقوبات بالسجن مدى الحياة في السجون الإسرائيلية لدوره في العمليات التي أدت إلى قتل وجرح عشرات الإسرائيليين في الانتفاضة الثانية ـ ليُلهِم الباحثين عن الحرية الأكاديمية والكرامة الإنسانية بأن مستقبل الشعوب والأمم هو في التنافس على المقاعد الدراسية لنيل أعلى الدرجات العلمية مهما كانت الظروف والمعوقات، فلا يوجد شيء خارج دائرة الإرادة سوى اللامعنى، إذ تسقط كل مفردات التعلم الحديث، كما وتسقط كل اليافطات التي نسمعها بين الفينة والأخرى والتي تدعو إلى إحداث إصلاح جذري في النظام التعليمي من خلال اعتماد أساليب وطرائق تدريس جديدة عبر وسائط متعددة كالإنترنت والسبورة الذكية أو تبني بعض استراتيجيات التعليم والتعلم وما إلى ذلك، دون وجود إرادة حقيقية لمواصلة التحصيل العلمي.

إن حصول البرغوثي على هذه الدرجة العلمية بمثابة دعوة لجميع المعلمين والمربين والقيادات التربوية وأولياء الأمور وغيرهم لإعادة النظر في بنية النظام التعليمي بشكل يدفع المتعلمين باتجاه «الدافعية»، وذلك بخلق بيئة تعليمية حاضنة ومشجعة على التنافسية والتميُّز من خلال الاستثمار الأمثل في سيكولوجية الطالب أولا.

عنوان الدكتوراه التي نالها البرغوثي ـ غيابيا ـ هو «الأداء التشريعي والسياسي للمجلس التشريعي الفلسطيني ومساهمته في العملية الديمقراطية في فلسطين من 1996 إلى 2008» وذلك يوم الثلثاء الموافق 16 مارس/ آذار 2010 من معهد البحوث والدراسات العربية التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، إحدى منظمات جامعة الدول العربية، بحضور أمين عام جامعة الدول العربية السيد عمرو موسى، وعدد من السفراء العرب المعتمدين لدى القاهرة وجمع من أصدقائه والمهتمين.

تمَّ قبول البرغوثي في برنامج الدكتوراه قبل ثلاث سنوات من اعتقاله الأخير، أي في سنة 1999، ورسالته تبلغ 341 صفحة، واللافت هو ما ذكرته زوجته المحامية فدوى البرغوثي بأن «السجن لن يكون عائقا أمام زوجها في يوم من الأيام لاستكمال دراسته أو مهامه في قيادة الحركة، فقد استطعت إمداد زوجي بصعوبة بجميع الأبحاث والدراسات والكتب التي يحتاجها لتحضير رسالة الدكتوراه، فالاحتلال كان يرفض دخول أي كتب أو أبحاث لمروان، لكنه قَبِلَ بعد ممارسة ضغوط على إدارة السجن».

البرغوثي لم يكتب بحثه بصفته راويا، بل كتبه من تجربته الذاتية، وهذا ما أكسب البحث العلمي أهمية من حيث النتائج والتوصيات التي توصل إليها، ليستحق بجدارة لقب «باحث»، فقد استطاع البرغوثي ـ حسب ما ذكره المشرف على رسالة الباحث ـ من إنجاز معظم رسالته قبل الاعتقال، فقد أنهى رسالته في النصف الثاني من العام الماضي 2009، وأنه تمَّ تأجيل المناقشة على أمل الإفراج عنه ضمن صفقة جلعاد شاليط، ولكن بعد اتضاح أن إسرائيل لا تنوي الإفراج عنه في هذه المرحلة، وبعد دراسة الموضوع من مختلف جوانبه بما في ذلك المسائل القانونية، تمَّ إقرار عقد المناقشة بهذا الشكل نظرا للظروف الخاصة التي يمر بها الباحث، وبخاصة أن عمله الأكاديمي كان مكتملا، وأنه بات مؤهلا للحصول على هذه الدرجة.

ليس من قبيل المبالغة أن نقول بأن البرغوثي نال درجة الدكتوراه في المقاومة والإرادة والعنفوان.

يقول الشاعر سميح قاسم:

منتصبَ القامةِ أمشي

مرفوعَ الهامةِ أمشي

في كفي قصفةِ زيتونٍ

وعلى كتفي نعشي

وأنا أمشي وأنا أمشي وأنا أمشي...