أجريت الانتخابات النيابية العراقية في 7 مارس/ آذار 2010، وذلك بعد مخاض عنيف من الصراع السياسي الذي يمكن وصفه بعملية تكسير العظام قامت بها لجنة المساءلة والعدالة برئاسة أحمد الجلبي والمدير التنفيذي علي فيصل اللامي. وقد استهدفت تلك اللجنة ما أسمته مراقبة اجتثاث البعث وفقا للقانون الذي صدر بعد الاحتلال الأميركي للعراق، ولقد قامت بعملية المساءلة والعدالة هذه اللجنة التي لا تتسم لا بالحياد ولا بالعدالة ولا بالنزاهة، فالسيد أحمد الجلبي موضوع مساءلة على دور في بنك الاعتماد في الأردن وعلاقاته مع أجهزة مخابرات أجنبية موضع تساءل، ولذا كان استهدافها ليس للشخصيات البعثية وإنما للشخصيات السنية والشخصيات المعارضة للاحتلال الأميركي وللنفوذ الإيراني في العراق.
وقد تدخلت اللجنة المستقلة للانتخابات لكي تسمح لعدد من الشخصيات بدخول الانتخابات كما تدخلت الولايات المتحدة بثقلها على مستوى نائب رئيس الجمهورية للحد من اندفاع لجنة المساءلة والعدالة في مواقفها الطائفية وخاصة ضد العرب السنة لضمان حد أدنى من التوازن السياسي في المشهد العراقي، ولذا تم تقليص عدد المستبعدين بواسطة اللجنة المذكورة وإن لم يتم إلغاؤها بصفة كاملة.
وجاء المخاض الثاني للانتخابات من خلال الإعلان التدريجي غير الرسمي بصعود هذه الكتلة أو تلك مما أثار حدة الصراع السياسي وهدد رئيس الوزراء نوري المالكي بأن العملية الانتخابية تعرضت للغش وألمح بوجه خاص لعملية فرز الأصوات رغم أن كافة القوى السياسية كانت تراقب، فضلا عن المراقبين المحايدين من العراق ومن الدول الأجنبية، كما ألمح لاحتمال استخدام القوة، مشيرا إلى أنه الرئيس الأعلى للقوات المسلحة والشرطة وتساءل كيف يفشل وزيرا الدفاع والداخلية في الانتخابات؟ وطالب نوري المالكي بإعادة فرز الأصوات يدويا في عدد من الدوائر وهو ما رفضته لجنة الانتخابات على أساس أن هذا المطلب ليس له ما يبرره من أسانيد واستمرت عملية الفرز التي أسفرت عن النتائج التي تم إعلانها، وقبل الجميع النتائج، واعترفوا بنزاهة الانتخابات، وإن أبدوا بعض التحفظات حيال وقوع بعض المخالفات.
ونعرض لعدد من الملاحظات ذات الصلة بالمشهد السياسي العراقي وما أفرزته الانتخابات:
الملاحظة الأولى: بروز ثلاثة تكتلات رئيسة على الساحة العراقية بالإضافة للتحالف الكردستاني. فالقائمة العراقية برئاسة إياد علاوي (رئيس الوزراء الأسبق) حصلت على 91 مقعدا، وائتلاف دولة القانون برئاسة نوري المالكي (رئيس الوزراء الحالي) وحصلت على 89 مقعدا، والائتلاف الوطني العراقي برئاسة عمار الحكيم (زعيم المجلس الأعلى الإسلامي) حصل على 70 مقعدا.
والتحالف الكردستاني حصل على 43 مقعدا. أما باقي المقاعد الـ 32 فقد توزعت بين قوائم عديدة منها 8 مقاعد للأقليات، و8 مقاعد لحركة التغيير (كردية)، و6 مقاعد لجبهة التوافق، و4 مقاعد لائتلاف وحدة العراق، و4
الملاحظة الثانية: بروز دور الشيعة العراقيين وبالأحرى هيمنتهم على المسرح السياسي العراقي وجاء ذلك نتيجة ثلاثة عوامل: أولها انحياز الاحتلال الأميركي للشيعة في العراق تحت مقولة الاضطهاد في عهد صدام حسين، وثانيها: إن القوى السياسية التي شكلت معارضة نشطة لنظام صدام كثير منهم من الشيعة سواء كانوا مرتبطين بأجهزة الاستخبارات الأميركية أو البريطانية أو الإيرانية وعاد بعضهم للعراق بنوع من الحمية والحماس والرغبة في الانتقام لما عانوه في ظل نظام صدام، وثالثها: تحالفهم مع التحالف الكردستاني.
الملاحظة الثالثة: تراجع الدور الدبلوماسي للسنة في العراق فليس هناك حزب سني له قوة في المقاعد وإنما أعطى السنة مساندتهم للقائمة العراقية بزعامة علاوي، كما انضمت جماعات صغيرة منهم للائتلاف الوطني العراقي. وهذا يدل على أمرين، أولهما: ضعف الدور السياسي للسنة لما تعرضت له من عمليات اضطهاد وقمع وأبعاد سياسي منذ سقوط نظام صدام حسين تحت مقولة إن صدام حسين ينتمي للسنة وإنها كانت مسيطرة على الحياة السياسية آنذاك. وثانيهما: تشتت العرب السنة وهجرة الملايين منهم إلى خارج العراق.
الملاحظة الرابعة: إن الانتخابات العراقية تعرضت لعملية غير ديمقراطية أثرت على إرادة الناخب العراقي سواء تحت ضغوط وتأثير المرجعيات الدينية أو تحت ضغوط الكيانات السياسية الطائفية أو تحت ضغوط النظام الحاكم المسيطر عليه الفكر الطائفي أو استبعاد القوى السياسية العلمانية والسنية بدعاوى مختلفة.
الملاحظة الخامسة: ورغم ما سبق من الإشارة للتأثير الواقعي على إرادة الناخب العراقي فإنه من الناحية الشكلية والإجرائية تعد الانتخابات من الانتخابات القليلة في البلاد العربية التي اتسمت بالنزاهة والشفافية والمصداقية إلى حد كبير، ولعل مرجع ذلك ثلاث اعتبارات، أولهما: وقوف الكتل والكيانات السياسية بالمرصاد لبعضها البعض ومراقبتها للعملية الانتخابية ولإجراءات فرز الأصوات، وثانيها: المراقبة الدولية وضغوطها من أجل ضمان نزاهة الانتخابات، وثالثها: الاستقلالية التي حرصت عليها لجنة الانتخابات وصمودها في مواجهة ما تعرضت له من ضغوط من الحكومة أو الكيانات السياسية الأخرى.
الملاحظة السادسة: إن نتائج الانتخابات العام 2010، أقل طائفية من نظيرتها العام 2005، وإن قامت أيضا على الفرز الطائفي وإلقاء نظرة على النتائج في الأقاليم العراقية يوضح ذلك بكل جلاء.
إن النتائج في الأقاليم الشيعية ذهبت للتكتلات ذات النفس الطائفي والمقاعد في المناطق السنية أو المختلطة ذهبت إلى تكتل علاوي الذي ركز على المفهوم العراقي غير الطائفي أما المناطق الكردية فذهبت للقوائم الكردية.
الملاحظة السابعة: بروز النفوذ الإيراني بطريقة غير مسبوقة، حيث توافدت جميع القوى السياسية الرئيسة الأربع على طهران للحصول على مساندتها لمواقفها وحث الأطراف الأخرى على التعاون. وعلى الجانب الآخر، قام السيد طارق الهاشمي بزيارة لعدد من دول الخليج العربية بينها الكويت والبحرين.
الملاحظة الثامنة: حول السيناريوهات المحتملة للتشكيل الحكومي القادم، نجد 4 سيناريوهات:
الأول: تحالف القائمة العراقية والائتلاف العراقي والتحالف الكردستاني.
الثاني: تحالف دولة القانون والائتلاف العراقي والتحالف الكردستاني.
الثالث: ائتلاف قوى يضم نوري المالكي وعلاوي، والائتلاف الوطني مع ترك الأكراد والأحزاب الأخرى في المعارضة وهذا يضمن وحدة العراق ومعارضة انفصال الأكراد بالأسلوب القانوني السلمي ولكنه سوف يثير حساسيتهم إذا لم يحصلوا على مناصب رئيسة في الحكومة.
الرابع: سيناريو الائتلاف الرباعي أي دولة القانون والقائمة العراقية والائتلاف الوطني والتحالف الكردستاني. وهذا السيناريو الثالث والرابع بحكم وجود شخصيات قوية مثل علاوي والمالكي لن يوافق أي منهما على رئاسة الآخر للوزارة فإن المطروح شخصيات من الصف الثاني لهذه المكونات جميعا.
وأيا كان السيناريو لمن سيتولى السلطة في المرحلة القادمة فلن يكون ائتلافا سهلا بل تحالفا قلقا لتعارض المصالح والاستراتيجيات والارتباطات ما لم ينجح مثل هذا التحالف في وضع سياسة توافقية تقوم على:
- الحد من النفوذ الإيراني مع علاقة حسن الجوار.
- زيادة الانفتاح على العالم العربي.
- زيادة الانفتاح على السنة العراقيين فهم ليسوا مسئولين عن أعمال صدام حسين.
- كبح جماح التوجه الطائفي.
- ضبط العلاقات مع الولايات المتحدة بتوازن معين يضمن لها مصالحها من ناحية، ويضمن تدخلها للمساعدة في الحيلولة دون اندلاع حرب أهلية في العراق ومن ثم ضمان وحدة العراق.
والوصول لمثل هذه الأجندة الوطنية ليس أمرا سهلا ومن ثم ستظل العراق لفترة تعيش حالة من المساومة لتشكيل الحكومة ولوضع أجندة مشتركة ويحتاج الأمر لتعاون القوى الدولية والإقليمية لتحقيق مثل هذا الهدف على غرار ما حدث في لبنان ومن ثم تبرز حكومة ضعيفة وعاجزة عن اتخاذ قرارات تحقق طموحات الشعب العراقي في الاستقرار والتنمية.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 2775 - الأحد 11 أبريل 2010م الموافق 26 ربيع الثاني 1431هـ