بعد العام 1765 لن تعود أوروبا إلى الوراء لأن اختراع الآلة البخارية أسست تحديات عقلانية (واقعية وحسية) دفعت النخبة إلى التقدم نحو المزيد من الاستقلال عن تلك المظلات الفلسفية التي كانت تتحكم بالمنظومات المعرفية وأبنيتها الهرمية المتوارثة من العصر اليوناني أو بتأثير من الفلسفة العربية والإسلامية التي انتقلت إلى أوروبا بحرا (الموانئ) أو برا (الاحتكاك) من القناتين: الأندلس من وسط إسبانيا وصقلية في جنوب إيطاليا.
اختراع السكوتلندي جيمس واط جاء مصادفة ولكنه حصل للرد على حاجة أخذت تفرضها المتغيرات التي أعادت تشكيل خريطة أوروبا الحديثة. بدأت الثورة الصناعية قبل عشر سنوات من الثورة الأميركية ضد بريطانيا في العام 1775، وتطورت طرديا بعد العام 1781، أي قبل انفصال الدولة الجديدة (الولايات المتحدة) عن التاج البريطاني بسنتين (1783).
لم يكن اختراع واط الآلة البخارية هو السبب في توليد الصناعة الحديثة. فالاختراع جاء في سياق التراكم الهائل في الثروات النقدية والسلعية التي تم تحويلها من «العالم الجديد»، وأتى ردا على حاجات توسع السوق وتلبية لنمو متطلبات التقدم وتفرعاته وتقاطعاته العلمية والاقتصادية والتقنية.
بدأ واط استخدام آلته في المضخات، ثم طوّرها في العام 1781 إلى آلة ميكانيكية. ونجحت شركته في إنتاج 200 مضخة و300 محرك بخاري. في البدء انتشرت الآلة في محيط مناجم الفحم الحجري والحديد، ثم انتشرت بالقرب من المرافئ البحرية والنهرية وأخذت بتسريع وتيرة النقل (القطار) وتسهيل الشحن (البواخر). وبدأت المواصلات بالتطور السريع حين نجحت في ربط مراكز إنتاج مواد الخام (المناجم) بالمصانع بالمرافئ النهرية والبحرية من خلال توسيع شبكة الطرقات وخطوط سكك الحديد وشق القنوات المائية وتوصيلها بفروع الأنهر ومراكز العمل.
أحدث تطور الآلة ثورة في عالم الاتصالات وخطوط المواصلات وطرق النقل ما شجع على نزوح الباحثين عن عمل من مناطق الريف والتوجه إلى المراكز الصناعية لتأمين السكن والوظيفة. وأدى التحول في بنى علاقات الاجتماع إلى توسع المدن وتطورها وازدهارها مستفيدة من ذلك النمو المطرد في تعداد السكان (طفرة ديموغرافية) الكثيف ما أسس لاحقا قواعد اقتصادية معاصرة لنشوء المدينة الحديثة.
أهمية الآلة البخارية لم تقتصر على قطاع الإنتاج الصناعي وإنما امتدت تداعيات الاختراع لتشمل مختلف الفروع المتصلة بهذا الاكتشاف. فالآلة دفعت الملاحة إلى درجة متقدمة من التطور (تحديث البواخر البحرية) والشحن البري (القطار) والمواصلات والاتصالات. فمن جانب المواصلات قام الفرنسي نيكولا جوزيف كونيو باختراع سيارة في العام 1769 تعمل بالمحرك البخاري. ومن جانب الاتصالات قام الفرنسي كلود شاب في العام 1792 باختراع التلغراف ما أعطى دفعة قوية لتسهيل تدفق المعلومات عن حركة النقل والشحن وتوزيع الأخبار والأنباء.
تصادفت كل هذه المتغيرات التقنية مع تحولات سياسية كبرى. ففي أوروبا ستوقع فرنسا وبريطانيا معاهدة في العام 1763 تنهي بموجبها حرب السنوات السبع وتحدّ من ذلك الصراع الذي نشب بين الدولتين على تقاسم المستعمرات وراء البحار. وفي الولايات المتحدة ستعلن وثيقة الاستقلال في العام 1776 مستفيدة من تلك المقولات التي أنتجتها النخبة البريطانية - الأوروبية في القرنين السادس عشر والسابع عشر.
القرن الثامن عشر لم ينطلق من فراغ وتهويمات وتخيلات النخبة وإنما تأسس على قواعد صلبة شهدت تطورات متسارعة في مختلف الفروع المعرفية والعمرانية. وشجعت هذه المتغيرات المنتجة ميدانيا على توسيع دائرة العقل وتحسين أنشطته الفكرية وتسهيل عمل النخبة وحمايتها من تسلط الكنيسة وقصور السلطة السياسية وتوفير فرص لتوظيف ذلك الفائض من الاكتشافات والاختراعات والنظريات والمفاهيم في سوق العمل الذي لم يتوقف عن طلب المزيد لتطوير شروط التنافس والقيادة.
بسبب كل هذه العوامل الموضوعية شهد القرن الثامن عشر طفرة نوعية في الاجتهادات الفلسفية والتجريبية والحسية اعتمادا على النتاجات التي تولدت في القرنين السابقين من ديكارت الذي يعتبره هيغل مؤسس الفلسفة الحديثة وليبنتز وباسكال وسبينوزا وبيكون ولوك ونيوتن وصولا إلى اللورد شفتسبري (1671-1713) ورجل الدين جورج باركلي (1685-1753) ومؤسس الاقتصاد السياسي الحديث آدم سميث (1723-1790) وتوماس ريد (1710-1796) وفولتير (1694-1778) وديدرو (1713-1783) ودي لامتري (1709-1751) وهلفسيوس (1715-1771) ودولباك (1723-1789) ومونتيسكيو (1689-1755) وجان جاك روسو (1712-1778).
هذه الطفرة من التقدم المتنوع على مختلف المستويات المعرفية بدأت تعطي مردودها السياسي وأخذت تصبّ فروعها في الدائرة الفرنسية ما دفع نحو انفجار ثورة في العام 1789 ما سيكون لها تداعياتها النوعية على استقرار القارة الأوروبية وتوليد حوافز للتفكير الجديد في الماضي والحاضر والمستقبل.
بعد الثورة الفرنسية ستشهد ألمانيا تحولات دراماتيكية على مستوى النخبة الجديدة متأثرة بذاك المنتوج الفلسفي الذي تشكل قاريا خلال القرون الثلاثة وتمظهر في تكوين روافد نقدية وتجريبية ومادية تأسست بذورها الأولى في بريطانيا. ففي مطلع القرن الثامن عشر حتى نهايته ستشهد هذه المملكة الدستورية ولادة علماء فلاسفة في الفيزياء والعلوم الطبيعية بدءا بإسحق نيوتين (1642-1727) وجون تولاند (1670-1721) وديفيد هارتلي (1704-1757) وانتهاء باكتشاف جوزيف بريستلي (1733-1804) غاز الأوكسجين.
تصادف رحيل بريستلي في السنة التي توفي فيها الفيلسوف الألماني ايمانويل كانط (1724-1804) الذي رفع الفلسفة إلى أعلى قمة أوروبية إلى جوار فريديرك هيغل (1770-1831) وهي قمة لن تستطيع الأجيال اللاحقة الوصول إليها في العقود المقبلة.
مرّ كانط في مراحل ومحطات وكان في كل منعطف يعيد تشكيل منظومته الفلسفية ويطوّرها حتى تتناسب مع مختلف المتغيرات والتحولات المجاورة والمحيطة به.
المرحلة الأولى من كتاباته، كما ذكرنا سابقا، وضعت بين 1747 و1770 وحاول فيها الجمع (التوفيق) بين ديكارت وليبنتز ونجح في تقديم ثلاث أطروحات بين العام 1755 (متأثرا بنتائج زلزال لشبونة) والعام 1756 (متأثرا بنظرية نيوتن الفيزيائية عن الحركة) ومستفيدا من كتاب وضعه مارتن كنوتزن (توفي 1751) في العام 1740 عن الفلسفة والدين (المسيحية).
زلزال لشبونة كان المحرض وهو الذي دفع كانط درجات متقدمة نحو التفكير العقلاني في البحث عن العلة والأسباب. ولجوء كانط إلى البحث العلمي في كشف الأسباب الطبيعية للزلزال دفعه إلى الاستفادة من تلك القراءات العلمية (الفيزيائية/ الفلكية) وعلوم نشأة الكون التي أخذت تتأسس رويدا منذ زمن كوبرنيكس وغاليليو وكبلر وأخيرا نيوتن وما أنتجوه من إضافات نوعية شرحت قوانين الجاذبية وفيزياء الطبيعة والرياضيات. فالزلزال كان عنيفا وأحدث هزة في الرؤى الفلسفية وزعزع تلك المقولات الكنسية بشأن الفاعل. وأدى التفسخ إلى توليد صدمة عقلانية لمصلحة التنوير والتفاؤل بالحضارة وضرورة تقدمها لتسهيل سيطرة الإنسان على الطبيعة.
بعد تجاوز هذا الحدث المخيف دخل كانط المرحلة الثانية في مهمة تطوير مشروعه الفلسفي ومنظومته المنهجية، فبدأت كتاباته العقلية بالظهور منذ 1770 إلى أن نجح في تكوين مدرسة مستقلة خاصة به من دون أن ينقطع عن تلك الفروع والروافد التي قدمت له مقولات منجزة في مختلف الحقول. كانط تابع بانتباه نظريات نيوتن وكبلر وعلماء الفيزياء بشأن قوانين الطبيعة (صدر نقد العقل المحض في العام 1781) كذلك تأثر بأفكار ديكارت وليبنتز وولف وباركلي وروسو والثورة الفرنسية... وتلك الاجتهادات التي أنتجها الفيلسوف ديفيد هيوم (1711-1776).
هيوم ساهم مساهمة كبيرة في تحديث رؤية كانط العقلية في المرحلة الثانية من كتاباته. فهذا الاقتصادي والمؤرخ الاسكتلندي نجح في تعديل الكثير من المقولات المتداولة بشأن المعرفة من خلال مؤلفاته وتحديدا تلك المتصلة بالتحقيق في الذهن البشري. برأيه تقتضي معرفة الطبيعة الإنسانية نبذ الوهم الميتافيزيقي. الفلكيون مثلا يعتمدون على الاستدلال انطلاقا من مراقبة الظواهر أما تقصي الذهن البشري فإنه يتطلب تحليل قواه وطاقاته.
أدى هذا الاستنتاج الذي توصل إليه هيوم إلى نقد المعرفة، ونقد الذهن، ونقد فلسفة الإنسان كائن عاقل أو فلسفة الإنسان كائن اجتماعي. فالإدراكات برأيه هي نتاج المعرفة والتجربة. فهناك الوجود العيني (السبب والمفعول)، وهناك الوجود والبرهان (الاستدلال)، وهناك الواقعة الراهنة، وهناك الواقعة المستنتجة. وهكذا توصل هيوم إلى عقلنة فلسفة تجريبية لأن الأسباب والمفاعيل لا تكتشف بالعقل وإنما بالتجربة. فهناك الاستدلال البرهاني (الفكري) وهناك الاستدلال العملي (العيني). والمفعول لا يصدر عن العقل وإنما يستمد أصله من العادة والتجربة معا، لأن «كل الاستنتاجات المأخوذة من التجربة هي من أثر العادة لا من أثر الاستدلال». وهذه المعرفة تؤكد أن العادة أساسا جاءت من تجربة مهما أنتج الواقع من توهمات (مخيلة). وبكلام هيوم «يمكننا أن نعمد في توهمنا إلى قرن رأس إنسان بجثة فرس، ولكنه ليس بمشيئتنا أن نعتقد أن مثل هذا الحيوان قد وجد أبدا». (ص77).
هيوم لم يكن فريد عصره فهو أخذ الكثير من نتاجات بيكون وبركلي ولوك ونيوتن وكوبرنيك، ولكنه نجح في إضافة قراءات نوعية ساهمت في تطوير المعرفة التجريبية (فكرا ونهجا) مستفيدا من تقسيم لوك للحجج إلى برهانية ومحتملة وتقسيم نيوتن للحركة في اكتشافاته عن قوانين الجاذبية. وبما أن التجربة عند هيوم تعتمد مبدأ التخزين (تراكم العادة) فإن الحاجة تقتضي تطوير التجارب في مختلف الحقول (الرياضيات، الفيزياء، علوم التشريح) حتى يمكن الاستدلال العقلاني للحكم على الظواهر الطبيعية.
من نزعته التجريبية توصل هيوم إلى صوغ اجتهادات فلسفية بشأن مذهب الضرورة وصلته بمذهب الحرية (التجربة والاستدلال) انتهاء بنعي المعجزات (لأنها اختراق لنواميس الطبيعة) ليلتقي بذلك مع اللورد بيكون الذي انتقد بشدة الخرافات والمعجزات. فالدين ليس إلا «ضربا من ضروب الفلسفة».
التوقف عند هيوم كان لابد منه لأنه ترك تأثيره المباشر على كانط وملاحظاته بشأن قصور العقل وعدم قدرته على تخيل كل الأشياء من دون تجربة. فهذه التأثيرات ستنتج رؤية فلسفية ستتجه نحوها أفكار كانط التي انتشرت بقوة بين 1785 و1794 وستنتهي باختلافه مع السلطة البروسية في العام 1794 بعد صدور كتابه عن «الدين والعقل» ودفاعه عن مبادئ الثورة الفرنسية. كانط الذي عاصر شيلر وغوته وهردر وكورنر وفيخته سيستقيل في العام 1797 من منصبه الأكاديمي (أستاذ جامعي من العام 1765) ليموت بعدها بسبع سنوات... تاركا الباب مفتوحا للقمة الفلسفية المجاورة التي أسسها هيغل.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2772 - الخميس 08 أبريل 2010م الموافق 23 ربيع الثاني 1431هـ
merci
شكر
شكرا جدا علا الموضوع اعلاه وانا استفدت منه كثيرا جزاك الله خيرا
بارك الله في مجهودكم جعله الله في ميزان حسناتك
بارك الله في مجهودكم وجعله في ميزان حسناتكم
nona
اهم ابتكاراتها بصفة عامة
ملاحظة
مجتمعاتنا لن تمر بمراحا التطور ذاتها لكنها قفزت نحو نتائجها باعتبارها تملك الثروة وهذا هو سبب الخلل في البنية المجتمعية الخليجية, نحن درب زلق كبير متطور.