قد يتساءل البعض عن المصادر التي تعتمد عليها العصابات الضالعة في عمليات غسيل الأموال من أجل ضمان شريان الحياة الذي يمدها بالأموال التي تقوم بتبييضها.
يحدد الباحث والمتخصص في إدارة الأعمال د. عبد القادر الشيخلي، مجموعة من تلك المصادر، التي تبدأ بتجارة المخدرات، وتعرج على الرشا التي يتقاضاها بعض المسئولين لقاء خدماتهم غير الشرعية التي تنظم علاقاتهم مع مافيات غسل الأموال، وتتوقف عند الرقيق الأبيض من النساء وحتى الأطفال، دون إغفال محاولات التهرب من الضرائب، سوية مع الأموال المختلسة، وتزييف العملات.
مصدر مهم يبرزه الشيخلي وهو الفساد السياسي المستمد من «استغلال النفوذ «لجمع الثروات الطائلة، ثم تهريبها الى الخارج وإعادتها على شكل ذهب او مجوهرات او شراء عقارات»، منوها في ذلك إلى «سعى السياسي إلى المناصب النيابية او الوزارية لغرض تكوين ثروة بالسحت الحرام فهو يستخدم مبادئ الصالح العام بغرض الوصول إلى غايته الدنيئة».
ولضمان سلامة سير تلك العمليات بعيدا عن أعين أجهزة الأمن أو مؤسسات مكافحة غسل الأموال، تستعين مافيات تببيض الأموال بمجموعة متطورة من الأدوات، بما ذلك الاستفادة مما توفره تقنيات المعلومات والاتصالات من وسائل تسهل عمليات إخفاء مصادر تلك الأموال وقنوات تحويلها. ويلقي تقرير مطول نشرت فقرات منه صحيفة «الشرق الأوسط « اللندنية الضوء على العلاقة المتنامية بين تطور وسائل الاتصال وغسيل الأموال وبشكل خاص الهواتف الجوالة، وتعزز الصحيفة ذلك بنشر حديث خصها به المحلل الرئيسي في شركة «جونبير» البريطانية للابحاث السيد وينزور قال فيه «تعتبر الخدمات المالية عبر الجوال من القضايا التي لا يمكن تجاهلها، وان الخدمات المالية عبر الهواتف الجوالة ستشهد طفرة غير مسبوقة على مدى السنوات القليلة المقبلة، حيث يتوقع ان يرتفع عدد المستخدمين من 10 ملايين شخص في العام الماضي الى 612 مليون شخص بحلول العام 2011 سيولدون إيرادات مالية ستصل قيمتها الى نحو 587 مليار دولار».
ثاني تلك الأدوات، وأكثرها فعالية هي التي تستخدم لتضليل الأجهزة الرقابية، عن طريق تأسيس أو استئجار مؤسسات ترفيهية قادرة على أن تدر أموالا ضخمة تكفي لتغطية النسبة المغسولة، او تمويهها مثل مدن الملاهي، وفرق السيرك. ومن بين الأدوات الأخرى أيضا شراء الذمم، وخاصة ذمم من يحتلون المناصب العالية في الدولة، مثل الوزراء، ومن هم في مستواهم او أعلى منهم، أو مناصب مشابهة في المؤسسات الدولية، وخاصة ذات العلاقة بالتحويلات المالية.
ورغم الآثار الاجتماعية والأخلاقية السيئة المباشرة التي تتركها عمليات غسيل الأموال على البلد التي يكون واحدا من ضحايا شركاتها، تبقى الأضرار الأكثر تدميرا هي التي تمس الاقتصاد الذي تخترقه، والتي تصل في حالات معينة إلى بنائها اقتصاد آخر قائم بذاته يكاد ان يكون موازيا للاقتصاد الشرعي للبلد الذي تنشط فيه، وهو ما أصبح يعرف مجازا باقتصاد الظل! سلبية أخرى تتركها عمليات غسل الأموال هي تلك الأرباح التي تتولد من عمليات الغسيل، لكنها، رغم فحشها، تقوم على التدوير وليس الخلق، بمعنى أن حركة النمو الاقتصادي تتحرك أفقيا مجردة من العناصر التي تبيح لها النمو عموديا، وهو ما ينعكس سلبا على المناخ الاستثماري الذي تدب في أوصاله، جراء ذلك، عوامل «الاسترخاء» أو «الشيخوخة»، التي تفقده القدرة على الاحتفاظ بتوازن آليات أدائه، دع عنك النمو الذي يوفر له القدرة على الصمود والتماسك امام أية هزة مالية من مستوى تلك التي عرفها الاقتصاد العالمي منذ ما يزيد على سبع سنوات. على نحو موازٍ تشن الأموال المغسولة حربا غير عادلة ضد رؤوس الأموال النظيفة، تكون الغلبة فيها للأولى، نظرا لعدم تقيدها بأنظمة السوق من جهة، وعدم خضوعها لقوانين آلياته من جهة آخر. يتظافر ذلك مع تحاشيها للضرائب أو المكوس، التي تشكل نسبة عالية من الكلفة الملقاة على عاتق رساميل الاقتصاد الشرعي.
الأخطر من ذلك كله هو تهديد تجارة غسيل الأموال لاستقرار أسواق المال، بما فيها تلك الدولية، الأمر الذي يهدد الاقتصاد العالمي برمته بأزمات استثنائية تختلف عن تلك التي تولدها قوانين السوق النظيفة. يضاف إلى كل ذلك تلوث سمعة البلد التي تشتهر بغسيل الأموال فيها، مثل ما حصل لبعض دول شرقي آسيا في التسعينيات من القرن الماضي، وافتقاد أسواقها المالية المحلية، حينها لثقة المتعاملين فيها، فتخسر نسبة عالية من الأموال المحتمل تدفقها من الخارج. عندما يحصل ذلك يفقد البلد المعني فرص اجتذابه الاستثمارات العالمية الشرعية، وتضعف أيضا عناصر تقوية الاقتصاد التي تمده بطاقات الصحة والنمو.
كل ذلك يجعل، بما يقطع الشك، من تجارة تبييض الأموال جريمة هذا العصر، بما تعنيه كلمة معاصرة من مدلولات، وهذا ما يدعو الجميع إلى حشد الجهود لمواجهتها، وعدم التهاون مع من يمارسها. ورغم بعض الجهود الملموسة المبذولة على المستوى العربي من أجل محاربة تجارة تبييض الأموال، فقد سنت الكثير من الدول الكثير من القوانين التي من شأنها سد الطرق امام عصابات هذه التجارة، كما انظم معظمها إلى اتفاقية «فيينا 1988» الداعية إلى «محاربة التحركات غير الشرعية في تجارة المخدرات والعقاقير المخدرة»، لكن ذلك لم يعد كافيا امام الأدوات المتطورة التي باتت بحوزة عصابات تبييض الأموال.
وفي السياق ذاته لم تتخلف دول مجلس التعاون عن ركب حافلة محاربة تبييض الأموال، فوجدنا دولة الإمارات تنشئ وحدة خاصة بذلك، وبنك الكويت المركزي يصدر تعميما في العام 1988 « يقضي بعدم السماح للوحدات الخاضعة لرقابته بفتح او حفظ حسابات بأسماء مجهولة او اهمية لعملائها، مع ضرورة تطوير السياسات والبرامج التدريبية الخاصة بمكافحة غسيل الاموال».
وفي البحرين، أصدر جلالة الملك في مطلع العام 2001 أمرا أميريا لحظر ومكافحة غسيل الأموال، نص على ان «كل شخص يدان او يشترك في غسيل الاموال يحكم عليه بالسجن لمدة قد تصل الى سبع سنوات وبدفع غرامة مالية قد تصل الى نحو مليون دينار، كما يعاقب بالسجن لمدة لا تقل عن خمس سنوات وبغرامة لا تقل عن 100 الف دينار مرتكب الجريمة من خلال عصابة منظمة او استغلال سلطاته او بقصد اظهار المال المتحصل من نشاط اجرامي انه من مصدر مشروع. ونص القانون كذلك بأن يعين وزير المال والاقتصاد الوطني لجنة وضع سياسات حظر ومكافحة غسيل الاموال بالتنسيق مع الجهات المختصة».
باختصار القوانين متوافرة، والعقوبات جاهزة، وليس هناك ما يبرر تجميد تنفيذها، أو يحول دون تفعيلها.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2764 - الأربعاء 31 مارس 2010م الموافق 15 ربيع الثاني 1431هـ