لم ينتهِ القرن السابع عشر برحيل ديكارت في العام 1650. السلسلة طويلة وهي تشمل أسماء تأثرت بمنهج ديكارت وقواعده المنطقية الهندسية الأربع، وأسماء تجاوزت العقلانية باتجاهات مضادة تبحث عن أدلة علمية تتجاوز البراهين النظرية وتتجه نحو العلوم التجريبية.
عرفت فلسفة ديكارت شهرة أوروبية وانقسم الأكاديميون ورجال الدين عليها، فعارضها البعض بذريعة أنها تخالف منطق أرسطو ومدرسة توما الاكويني وتعارض القراءة الدينية للنشوء والكون، وأيدها البعض في اعتبارها تشكل عودة عاقلة إلى “مملكة الله” التي قال بها الفيلسوف أوغسطينوس.
انتشار أفكار ديكارت تأسس على نمو شرائح اجتماعية نخبوية جديدة في أوروبا أخذت تبحث عن تفسيرات تتجاوز حدود المألوف والقراءات المتعارف عليها. حتى الفئات المتدينة لم تعد مقتنعة بالكثير من تلك المقولات الجاهزة ما جعل الكثير من رجال الدين يتجهون نحو الاشتغال على الفلسفة والعلوم والدخول في نقاشات جدلية للرد على تلك الأسئلة الحائرة بين الدين والعلم.
أهمية ديكارت أنه شكل إشارة إنذار مبكرة لرجال الكنيسة في عصره لأنه جاء من قوة اجتماعية أخذت ترفد الدولة “الجديدة” بعناصر توتر من داخل قنواتها التقليدية. فالكنيسة المتحالفة تاريخيا مع الارستقراطية وتعتمد على طبقة الملاك لدعم مهماتها الروتينية بالمال بدأت تكتشف نمو قوة مضادة لنفوذها من داخل تلك العائلات والأسر (فئة النبلاء).
ديكارت أعطى تلك الإشارة السلبية بوجود نوع من الانكسار في دائرة نفوذ الكنيسة. فهذا الفيلسوف جاء من عائلة أرستقراطية مثقفة تهتم بالعلم. جده جندي يهتم بالطب، والده مستشار في برلمان رين، والدته ابنة جنرال. وديكارت درس في معهد يديره اليسوعيون لتربية وتعليم أبناء نبلاء وعائلات ميسورة.
مفاجأة ديكارت أنه ترك المعهد (مجاز في الحقوق) واتجه إلى الجامعة لدراسة العلوم. ولكنه انخرط في الجندية وتجول وسافر إلى هولندا (الصاعدة آنذاك) التي كانت في حال حرب مع إسبانيا، وتعلم مهنة القتال إلى جانب الرياضيات والموسيقى والفلسفة.
قصة ديكارت مهمة لأن سيرته الشخصية تعطي لمحات عن مسار تحولات بدأت تشهدها القارة في لحظة الانتقال إلى عصر الثورة الصناعية. وديكارت الأرستقراطي الذي انخرط في جيش بافاريا “الكاثوليكي” ولجأ إلى مدينة ألمانية ليعود منها إلى باريس في ظل حكم لويس الثالث عشر، اكتشف بعد 9 سنوات من التجوال أن علومه لم تعد تسمح له بتقبل ما يرفضه العقل.
بسبب عدم استطاعة ديكارت تفهم حاجات دولته الكاثوليكية في عهد ريشيلو وصراعه ضد دولة الإنجليز البروتستانتية قرر مغادرة فرنسا إلى هولندا “الليبرالية”. وهناك عاش 20 سنة يسجل أفكاره ويخوض في الآن صراعات من نوع آخر مع اللاهوتيين البروتستانت.
اتهم ديكارت بالإلحاد وأحرقت كتبه وهدد بالقتل فاضطر اللجوء إلى السويد وهناك مات في العام 1650. حتى حين نقل رفاته في العام 1666 إلى فرنسا في عهد لويس الرابع عشر دفن في الكنيسة من دون صلاة بأمر مباشر من الملك الفرنسي.
آنذاك كانت الكنيسة استوعبت فلسفة أرسطو التي حاربتها طويلا في القرون الثلاثة السابقة وتحولت إلى نصير لها تحارب كل فيلسوف يفكر في نقد أرسطو أو تجاوزه. وديكارت صاحب المنهجية المخالفة كان أحد أبرز الوجوه المتمردة لأنه شكل ذاك التحدي من داخل مصادر الثروة والقوة لتحالف الدولة والكنيسة.
لم يكن ديكارت وحيد عصره. فالزمن الأوروبي دخل في موجات متتالية من التقدم. وكانت النخبة تلاحظ بسرعة مدى تأثير التطور على حياة العامة الأمر الذي يفسر نمو نزعة التنافس والتفاؤل والإحساس بفوائد الآلة وأهميتها في تعديل نمط معاش الإنسان. ويليز باسكال الذي ولد في كليرمون (فرنسا) في العام 1623 (والده موظف دولة) يمثل ذاك النموذج عن ولادة قوة جديدة أخذت تجمع العلوم وتربطها في سياق واحد بهدف إنتاج نظرية جديدة تخدم الناس.
ديكارت حاول الجمع بين الهندسة والجبر (الحسابات) والرياضيات ليؤسس منهجية هندسية تحليلية تقوم على المنطق الفلسفي. وباسكال الذي لا يصنف من الفلاسفة اجتهد بإشراف مباشر من والده على دمج الرياضيات بالهندسة بالفلسفة. وبسبب وظيفة والد باسكال (جابي ضرائب) أقدم الابن على اختراع آلة حاسبة تساعد الأب على الجمع والطرح والضرب وتوفر عليه إضاعة الوقت في جمع جداول الحسابات.
اختراع باسكال أدهش جيله في العام 1649 أي قبل سنة من رحيل ديكارت - الذي لم يكن يحب طموحات الشاب وعبقريته - حين تركت نظرياته الحسابية (التفاضلية) تأثيراتها اللاحقة على النخبة الأوروبية. فهذا الشاب العبقري نجح في العام 1648 في ربط قوانين توازن السوائل بمبادئ الميكانيكا العامة ما أثار حنق ديكارت لأنه دحض تجريبيا تأملاته النظرية.
باسكال العبقري لم يعش كثيرا إذ توفي في دير كاثوليكي وحيدا يعاني من أمراض الإرهاق الناجم عن المعاناة في التفكير والزهد والتصوف. فهذا الشاب أدهش جيله باختراعاته واكتشافاته ونظرياته وتجاربه قبل أن يبلغ الثلاثين من عمره. ونجح في تلك الفترة بابتداع مكتشفات نظرية ساهمت في تطوير علوم الرياضيات من خلال التجربة (الاختراع) لا الاستدلال. فالتجربة أوصلته إلى تأسيس “حساب النهايات” التي تدمج بين حساب التكامل وحساب الاحتمالات، وهي نظرية كانت محط إعجاب وتركت تأثيرها على تيار من الفلاسفة لاحقا.
توفي باسكال في العام 1662 (39 سنة) متدينا بعد أن مرَّ في فترة زندقة وضياع نتيجة عدم قدرته على الربط بين العقل والقلب أو ما كان يسميه التمييز بين الروحية الهندسية وروحية الدقة.
جهود باسكال لن تذهب هدرا إذ سيتعرف عليه الفيلسوف الألماني (عبقري عصره) جوتفريد فيلهلم ليبنتز ويأخذ عنه في مطلع شبابه أيضا معادلة المفاضلة الحسابية ويقوم بتطويرها فلسفيا. وليبنتز الذي لايزال يصنف على أنه الإنسان الأذكى الذي أنجبته أوروبا حتى الآن تعرّف أيضا على الفيلسوف باروخ سبينوزا الذي أطلعه على كتابه عن “الأخلاق” لأخذ رأيه به قبل النشر.
سبينوزا (من أسرة يهودية) ولد في أمستردام في العام 1632 وتوفي شابا في العام 1677 (45 سنة) يعتبر حلقة وصل بين الفلسفة العربية - الإسلامية والفلسفة الأوروبية المعاصرة. فهذا الفيلسوف الشاب تأثر بكتاب الفيلسوف اليهودي العربي ابن ميمون (دلائل الحائرين) المعجب بفلسفة ابن رشد ومنهجه الفقهي. وبسبب تلك الصلة البعيدة بين الفيلسوفين تشكلت منطقة وسطى عند سبينوزا تربط الدين بالفلسفة والفقه بالعلم ما دفعه إلى الاشتغال باكرا على مبادئ فلسفة ديكارت والطرق الهندسية التي ابتكرها للبرهان على صحتها. وجاءت باكورة مؤلفات سبينوزا في العام 1660 لتضعه في مصاف كبار العاملين في حقل الفلسفة العقلية المعاصرة ما أدى إلى تحويله إلى نموذج يحتذى في وسط جيله الحائر والباحث عن مرشد يدل الحائرين على الطريق (المنهج) الذي يجمع بعقلانية هندسية بين الواحد والكثرة.
أهمية سبينوزا أنه اتبع أسلوب ديكارت في البحث عن منهج جديد للاستدلال والمعرفة. لذلك حين صنف ضروب المعرفة على ثلاثة فروع (معرفة بالتجربة المجملة، معرفة عقلية استدلالية، ومعرفة عقلية حدسية) اعتبر أنه يتابع ديكارت في جانب ويخالفه في جانب آخر حين ربط الخلود بالوعي العقلي وأعطى “العقل” مهمة تاريخية وهي ملاحقة الحقائق السرمدية والتعرف عليها حتى تستمر قيمتها الوجودية.
شجاعة سبينوزا في اقتحام “المقدسات” و”الممنوعات” و”المحرمات” بدأت تتقدم في عصره على أكثر من صعيد بسبب نمو مراكز قوى معادلة أو منافسة للاكليروس ونفوذه التقليدي على العامة. فأوروبا الآن قطعت الأشواط الزمنية المطلوب تحقيقها في سياق الانتقال من التفسيرات الدينية إلى التفسيرات المنطقية (التأويلات) إلى التفسيرات العقلانية. وما أنتجه ديكارت وسبينوزا من قراءات علمية - هندسية معاصرة يشكل بداية طريق طويل أخذ يكتشف قنواته الخاصة في إطار نمو تحولات اجتماعية - اقتصادية - ثقافية سيكون لها تأثيرها التنويري على السياسة أيضا.
أوروبا في النصف الثاني من السابع عشر ستدخل طور القيادة البريطانية للفكر الفلسفي المعاصر بفضل دور تلك الطلائع السياسية والاقتصادية التي أنتجت مقولات عن الحرية سيكون لها تأثيرها الخاص على الكثير من المدارس الليبرالية في الحقبات اللاحقة. وظهور هذا النوع من الفكر السياسي الليبرالي جاء في سياق الانسجام مع التحولات التي تلت الاضطرابات الدينية (الطائفية - المذهبية) والانقلابات العنيفة على الدساتير، والانتقال إلى فترة عرفت خلالها القارة حالات من الاستقرار والسكينة ما شجع على نمو رؤى تطالب بالمساواة والعدالة والحرية وتؤكد مقولات التسامح والتساكن والتعايش والقبول بالآخر والاعتراف برأي المختلف.
تشكل هذا التيار الليبرالي فلسفيا في إنجلترا التي دخلت في حرب أهلية مبكرة (العام 1642) وحروب تجارية مع هولندا والدنمارك انتهت باتفاقات في العام 1667، وأخيرا ازدهار الحياة الملكية الدستورية في بريطانيا وتطورها إلى بلورة صيغة تعايشية مرنة حديثة ومعاصرة في العام 1688. ففي هذا الفضاء المستقر نسبيا في بريطانيا بدأت تزدهر أفكار التسامح والحرية ونشر العلم في وقت كانت فرنسا دخلت في عصر وحدة الدولة المركزية بقيادة العائلة المالكة (لويس الرابع عشر حكم فرنسا من 1660 إلى 1715). تحولت بريطانيا بين القرنين السابع عشر والثامن عشر إلى نموذج أوروبي يحتذى في وقت كانت لاتزال القارة تشهد في بعض زواياها اهتزازات وانتفاضات وثورات. بريطانيا بعد الثورة الجمهورية (الحرب الأهلية) ستنتج موجة نخبوية من كبار العلماء والفلاسفة والمخترعين ورجال الدولة والاقتصاد ما سيكون له تأثيره الكبير في تشكيل مدارس اجتماعية وسياسية واقتصادية في عالم لا يعرف الاستقرار الذهني ولا يعترف بالحقائق كما هي. فالمدرسة الإنجليزية المادية (الوضعية والتجريبية) لم تستقر إلا بعد حركة احتجاج بدأت طوباوية حين تمرد توماس مور (1478-1535) على الملك ورفض الاعتراف به بوصفه رئيسا للكنيسة ما أدى إلى قطع رأسه. مور الذي رحل قبل ولادة بيكون وماكيافلي بثلاثين سنة ألّف كتابه عن المدينة الفاضلة (اليوتوبيا) ما يعتبر إشارة سياسية مبكرة لنمو نزعة مثالية تطالب بالمشاركة في الإنتاج والتوزيع، وهي حركة سيكون لها دورها الخاص في تثوير الاجتهادات العقلية في القرن الثامن عشر مستفيدة من طوباوية شاعرية بدأت إرهاصاتها في القرن السادس عشر وصولا إلى عقلانية نيوتن وواقعية لوك.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2751 - الخميس 18 مارس 2010م الموافق 02 ربيع الثاني 1431هـ
عبد علي عباس البصري
والله امتعب نفسك اخي امحترم (وليد انويهض ) اذا رحت اوربا اكب عن تاريخهم المتصرم بس احنى في العالم العربي نعيش وضع سياسي صعب جدا وفي مفترق طرق لا نحسد علي نحن على كف عفريت الله اعينا ، احنى كاصرين مشاكل او احنى كاصرين علماء وافاضل ،اخ انويهض اكتب مواضيع عن وطنى البحرين عن الخليج عن اليمن عن العراق عن ايران عن فلسطين .... انته ويش رايح تكتب على الاقل اكتب عن لبنان اذا انته ما تشوف شنهو صاير في الشوارع في البحرين والعراق واليمن وايران. الله اساعدنا على كتاباتك هذه .
العالم الاسلامي
انا ارى ان العالم الاسلامي يعيش في اجواء مماثلة لعصور الوسطى والحل هو احترام وتقدير العلماء