كان كثير من علماء القرن الثالث عشر ومفكريه المعروفين ينتسبون إلى واحدة أو اثنتين من هذه الجمعيات. فألبرت الكبير، والقديس توما الأكويني، كانا من الدومينيكان، وروجر بايكون، وجون دنيس سكوت، من الفرنسيسكان.
انفتح الباب، كما سبقت الإشارة، أواخر العصور الوسطى، للتعرف على فلاسفة اليونان لا سيما أرسطو، وكانت طلائع ذلك عن طريق الترجمات العربية، ثم حاول المتخصصون من أهل العلم والتحقيق إثراء معلوماتهم عن اليونان القديمة بالرجوع إلى المناهل الأصلية. وإذ أخذت الميتافيزيقا تلقى اهتماما كبيرا من قبل المتخصصين والباحثين في ذلك الزمان، فإن انفتاح باب التعرف على الفلسفة القديمة ألّف، على نحو أعم، بين الأذهان التحقيقية، وبين الأسئلة والموضوعات الفلسفية الشتى، وليس الميتافيزيقية فقط.
وما إن دخل النصف الثاني من القرن الثاني عشر، حتى أخذ هذا الانفتاح يؤتي ثماره على مستوى الفكر السياسي. ولعل الكتاب الذي وضعه جون الساليسبوري (John of Salisbury)، تلميذ بيير أبيلار، في العام 1159 تحت عنوان بوليكراتيكوس (Polycraticus) أولى هذه الثمار. في هذا الكتاب دافع جان الساليسبوري عن فكرة الجمهورية أي المجتمع المترابط بميثاق مشترك في باب الحقوق والقانون. ومن الضروري التنبيه في هذا المقام على أن المراد بالجمهورية هنا، (كما عند أفلاطون)، المجتمع السياسي من حيث طبيعته، لا نوعا خاصا من الحكومة في مقابل الملكية أو سواها من أشكال الحكومات. ومما يذهب إليه جان الساليسبوري أن بين الحاكم والمستبد اختلافا لا يستهان به، هو أن الأول مطيع للقانون يرى إلى نفسه، خلافا للآخر، خادما للشعب وإلى أنه يعتبر القانون قوام المجتمع المدني والرباط بين الناس. ولما كانت شرعية السلطة، في رأية، تستمد قانونيتها، فهو يلعن صراحة أن من يغصب السيف (السلطة) غصبا حري أن يقتل به. وهكذا يعترف للناس بحقهم في مقاومة الحكومات الغاصبة.
وما بنا من حاجة إلى بيان الأثر الذي يمكن أن يكون لمثل هذه الأفكار في إعداد الأرضية المناسبة لظهور مجتمعات مدنية بالأسلوب الجديد.
سبق القول إن الإنسان الغربي عبر من العصور الوسطى إلى العهد الجديد من خلال واقعتين مهمتين، إحداهما تعرف بالنهضة الحديثة والأخرى بالإصلاح الديني. وإذ كانت الأسباب التي تقف وراء هاتين الواقعتين مختلفة، فإنهما غصنان متفرعان عن جذع واحد. ولولا ذلك ما كان للتغيرات والوقائع التي عرفها الغرب أن تأخذ المنحى الذي أخذته، أو أن تقع أصلا.
على خلفية من تدين لا شك فيه انطلق أصحاب دعوة الإصلاح في مشروع غايته الدفاع عن الديانة، وإعادة توطيد أركانها، ورأوا أن الوصول إلى غايتهم هذه يفترض مواجهة المؤسسة الكنسية القائمة، والحق أنهم نجحوا في زعزعة سلطان الكنيسة، ولكن نجاحهم هذا لم يؤد بهم إلى الغاية المنشودة التي هي إعادة توطيد أركان الديانة. فما أضعفوه من مكانة البابا ومن موقع الكنيسة الاجتماعي والمعنوي جر الكنيسة إلى شيء من العزلة، وزواها عن حياة الناس.
وليس هذا فحسب، فما أضعفوه من مكانة البابا وموقع الكنيسة استثمره أهل الدنيا وجيروه لمصلحة مشروعهم.
لقد كان أصحاب النهضة الأوروبية الحديثة، ومؤيدو الإصلاح، يشتركون في الرأي بأن ما يمارس باسم الدين ومؤسسته يطلب أن يعاد النظر فيه فكانوا، من حيث ما يعترضون عليه، رفاق طريق واحدة، أما من حيث ما يسعون في سبيله فلم يكن الأمر، بطبيعة الحال، كذلك. وقد رأينا أن من حالفه الحظ، وخدمت الظروف أهدافه وتطلعاته، لم يكن التيار الديني الإصلاحي ولكن الفريق الآخر الذي يقدم الدنيا والمادة على عالم الآخرة والمعنى. في القرن الثالث عشر، بلغ القديس توما، بفضل نبوغه وذكائه بالفلسفة وعلم الإلهيات المسيحي، قمة شاهقة، فسعى بعد قرون من النزاع بين العقل والوحي إلى إدراجهما في بوتقة واحدة، كلا في موضعه المناسب، فلا يضطر الإنسان إلى تعطيل أحدهما للإبقاء على الآخر.
ولكن في هذه الأثناء، أي عندما بدت المعارف الدينية أقوى منطقا وحجة، تعرضت مؤسسة الكنيسة – التي كانت تعتقد أنها القيمة على الدين المسيحي والمرجع المطلق فيه، وتعتبر رأيها الملاك النهائي للتمييز بين الحق والباطل – تعرضت إلى هجمات عنيفة من فئتين: فئة المتدينين الباحثين عن المسيحية الحقيقية في ما وراء البهرجة والمظاهر والمكنة المادية المفسدة، وفئة “العلمانيين” المصممين، رغم محاولتهم عدم الخروج عن حيطة الاحترام والأدب المفروضين للدين، على القضاء على أية دعوى دينية تعارض المواقف العرفية والمطالب الإنسانية في البحث عن دنيا أفضل. وقد بلغت هذه الهجومات أوجها الحاسم مع النهضة والإصلاح الديني، في القرن السادس عشر الميلادي.
ففي هذا القرن، طفت النزاعات المذكورة أعلاه على السطح واشتد أوارها، وكان من جملة المعترضين من غير رجال الدين في هذا القرن دانتي (1265 – 1321م)، الشاعر والأديب الإيطالي المعروف، الذي أتم دراساته في الجامعات المؤسسة حديثا، كجامعة باريس وأوكسفورد، والذي وضع، إضافة إلى رائعته الأدبية الكوميديا الإلهية وسائر آثاره ومؤلفاته، رسالة في الملك وضرورة استقلال الملك عن البابا. وقد انتقد دانتي المؤسسة البابوية انتقادا شديدا، وطالب بمجتمع يخضع – مع تمسكه بأصول دين المسيح (ع) ومعاييره الحقة – لسلطة ملك قوي وغير ملزم بالاستجابة لأوامر البابوية وضغوطاتها، ويرى أن أبواب التقدم والرفاه لا بد أن تفتح أمام مجتمع كهذا.
ومن المنظرين الذين يستحقون الذكر بامتياز، مارسيله البادوي (1275 – 1345م) الذي لم يكن له نظير في صراحة القول وشدة الاعتراض على الكنيسة. والذي يمكن اعتباره، بحق أحد رواد العلمانية (Secularism) في أوروبا، وأحد الذين تدين لهم العلمانية في رواجها وشيوعها. وككثير من رواد الثقافة الحديثة كان المذكور من خريجي جامعة باريس، بل إنه تولى لمدة إدارة هذه الجامعة. كان مارسيله طبيبا زاول الدراسة والمتابعة في علم الإلهيات أيضا، حتى تمكن منه، فكتب فيه متحررا إلى أقصى الحدود من قيود الكنيسة وإلزاماتها.
إقرأ أيضا لـ "محمد خاتمي "العدد 2751 - الخميس 18 مارس 2010م الموافق 02 ربيع الثاني 1431هـ
صح لسانك
صح لسانك يا زائر رقم 1 ، كل من انحرف عن نهج الامام الخميني فهو فاااااشل
هههههههههههههه
الرجاء من الوسط احترام ذوق الناس وعدم نشر مقالات لاشخاص فاشلين ....