إذا تأملنا معظم الكراهيات الراهنة التي تعرّضنا لبعضها في المقالات السابقة، فإننا سنكتشف أنها لم تكن كراهيات استثنائية أو فريدة من نوعها، ولم تكن بدعا في تاريخ الكراهيات، بل هي كراهيات مكرورة، وربما كانت باهتة وهشّة وهزيلة إذا ما قيست بتلك الكراهيات العريقة والقاسية التي عرفها التاريخ. لم تكن عبارة «القرد النوبي»، في أغنية هيفاء وهبي، أقسى ولا أمرّ من تلك الصور النمطية الحيوانية والشهوانية المؤذية التي ألصقت بالسود عامة في المتخيّل العربي طوال العصور الوسطى. فما خطورة عبارة «القرد النوبي» إذا وضعت بجوار عبارة ابن المقفع (ت 142هـ) حين سئل عن الزنج فقال: «بهائم هاملة»، أو عبارة ابن رسته (ت 290هـ) حين وصف سكان جنوب إفريقيا بأنهم «أشدّ سوادا، وشعورهم أشدّ تفلفلا، وخلقهم أشدّ تشوّها (...) متوحشي الطبائع، متشبهين في أكثر طبائعهم بالسباع المتوحشة الذعرة»؟ أو ما خطورة هذه العبارة إذا قيست بعبارة شمس الدين الدمشقي (ت 727هـ) حين وصف سكان خط الاستواء من السود بأنهم «في عداد الوحوش والبهائم، محترقة ألوانهم وشعورهم، منحرفة أخلاقهم وخَلقهم»؟ وإذا كانت أغنية هيفاء وهبي تتحدث عن لعبة (قرد) وصفت بالنوبية، فإن العبارات السابقة تقلب معادلة الوصف بصورة مؤذية وجارحة، فالبشر السود، هناك، هم البهائم والسباع لا على وجه المجاز والتشبيه، بل إن البعض ينقل عن نصير الدين الطوسي أنه كان لا يجد اختلافا بين السود والقرود إلا في استقامة القامة!. فإذا كانت عبارة أغنية هيفاء وهبي قد أثارت كل هذا الاحتجاج بين النوبيين، فكيف يمكن أن نتصوّر ما سيكون عليه حجم هذا الاحتجاج لو أن النوبيين - ومعهم جميع السود في العالم - قد سمعوا اليوم عبارة نصير الدين الطوسي؟
وعلى الصعيد ذاته، فإذا ما وُضعت تعليقات جون دونالد إموس التهكمية أمام الخطاب العنصري في تاريخ الثقافة الأميركية، فسنكتشف أن عبارة إموس باهتة وهشة ولا وزن لها أمام بشاعة العنصرية العريقة وثقلها في التاريخ الأميركي. ويمكن القول، كذلك، بأن تصريح عادل الكلباني في برنامح «في الصميم» على الـ «BBC»، تصريح هزيل ولا يرقى لمستوى الكراهية الطائفية المرّة التي نجدها، مثلا، في مؤلفات وفتاوى ابن تيمية وابن كثير ومحمد بن عبدالوهاب وابن عثيمين وابن باز وحتى ابن جبرين الذي كفّر عامة الشيعة دون تردد أو استثناء. وعادل الكلباني نفسه كان يعلم أنه لم يأت بجديد في تصريحه السابق، ولهذا تراه يتعجّب من الضجة التي حصلت بعد المقابلة. وفي تصريح لاحق نُشر في صحيفة «سبق» الإلكترونية بتاريخ 10 يونيو/ حزيران 2009، أعاد الكلباني كلامه بشأن تكفير الشيعة، وقال «إنه لم يأت بجديد في تكفير الشيعة فالعلماء منذ ابن تيمية وابن كثير حتى ابن باز وابن عثيمين قد صرحوا بكفرهم»!.
كل هذا صحيح، فلا هيفاء وهبي ولا إموس ولا الكلباني جاءوا بكراهية جديدة تفوق أو تضاهي في أذاها تلك الكراهيات العريقة التي كانت متداولة في التاريخ، إلا أنها كراهيات تأتي في غير أوانها. وقد فات هؤلاء أن الظروف تغيّرت، وأن خطاب الكراهية لم يعد يتمتع بالحرية المفتوحة كما كان أيام ابن تيمية وحتى أيام ابن عثيمين وابن باز. ثمة تحوّل حاسم كان على هؤلاء أن يتكيّفوا معه أو يمضوا، بجهالة أو بعناد، في مواجهة مصيرهم وفقدان وظائفهم أو استقرارهم أو اعتبارهم العام أو حتى حياتهم في بعض الأحيان. وإذا خرجنا من الإطار المحلي أو الإقليمي الذي يطبع هذه الحوادث بطابعه الخاص، فسنجد أن المشهد العالمي يمرّ بالتحوّل ذاته وخاصة بعد أن بدأ المجال العام العالمي في التشكّل بسبب العولمة وبفضل التقدم المذهل في تكنولوجيات الاتصال السريع والفوري. فحين تعولمت الاتصالات تعولمت معها الكراهيات، وأصبحت انعكاسات هذه الكراهيات سريعة، بل فورية في بعض الأحيان.
لقد سمحت العزلة التاريخية والفوضى وحالة اللادولة التي كانت تعيشها المجتمعات وانعدام المجال العام أو ضعفه، كل هذا سمح بوجود جماعات معزولة تمكنت من تبادل الكراهية فيما بينها من دون كوارث وأزمات كبرى، كما سمح بوجود جماعات قوية ومهيمنة من جهة، وجماعات ضعيفة ومهمّشة من جهة أخرى، مما أتاح للجماعات الأولى فرصة إشهار كراهيتها علنا ضد الآخرين دون خوف أو تحرّج وحتى دون توقّع الرد المضاد، في حين كان قدَر الضعفاء أن يتلقوا الضربات ويكتووا بنار كراهيتهم وحقدهم في صدورهم وداخل فضاءاتهم المغلقة دون أن تكون لهم القدرة على المجاهرة بذلك علنا. كل هذا كان في الماضي، إلا أن الحال تغيّر اليوم، وأصبح بإمكان الضعفاء، في كثير من المجتمعات، إما التوسّل بالقانون وقوى المجال العام لمناهضة الكراهيات التي تستهدفهم وكبتها، وهم، في الغالب، ينجحون في مسعاهم، وإما الرد على الكراهية بكراهية مضادة وقد تكون أعظم من الأولى. وهذا ما خلق نوعا جديدا من توازن رعب الكراهية، وهو توازن رعب يقوم على هذا المنطق: كل كراهية لن تمر بدون حساب، بل سيرد عليها بكراهية مضادة.
لا ينبغي، بالطبع، أن ننسى أننا مازلنا نشهد حتى اليوم حركة تداول حرة لأشكال متفاوتة في قسوتها من كراهيات تأتي في غير أوانها وتستهدف بعض الجماعات والفئات الضعيفة في المجتمع. والغريب أن هذا التداول يجري دون رقيب ودون تحرّك من قبل قوى المجال العام، بل قد تكون هذه القوى هي مصدر هذا النوع من الكراهية. خذ، مثلا، ذلك الحديث الساخر الذي لا يخلو من كراهية وانتقاص بحق الهنود في الدراما الخليجية التلفزيونية والمسرحية. وقد صارت الكوميديا (والكلام ينسحب على النكات كذلك) واحدة من الحيل المعهودة التي تتوسّل بها الدراما والمسرحيات والكاريكاتور والبرامج الإذاعية والتلفزيونية للتعبير عن كراهيتها ضد الفئات الضعيفة في المجتمع.
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 2748 - الإثنين 15 مارس 2010م الموافق 29 ربيع الاول 1431هـ
حسين مبارك
من المتابعين للإطروحاتك الكتابية منها والمقالية..
موضوع الكراهية يحتاج لإنتاج كتابي.. بحيث يسعنا ان نتواصل مع تدافق الافكار وتسلسلها..
أما بالنسبة للكراهية في غير أوانها.. فهي كما قلت يا نادر.. "كل كراهية لن تمر بدون حساب، بل سيرد عليها بكراهية مضادة".
اســـــــــتثمار ... الكــــــــراهية
حركة تداول استثمارية لمواسم ترويج الكراهية ، يتم توظيفها بمزاجية حرفية ، اتصالية تواصلية عالمية فورية ، معلوماتية تكنولوجية ( فضائية ) شبكية ، اختراقية تجسسية ؛ لتغذية الجماعات القاسية العنصرية ، وكل ذلك يدك بتسديد ضربات رادعة قوية من قِبل الضعفاء ومقاومتهم الفعلية ، ولا نتغافل – أبداً – العناية الإلهية ( وما ربك بغافل عما يعمل الظالمون ) . كل الشكر للكاتب وللوسط ... نهوض
مقال عن الكراهية يبعث على التفاؤل
الله ... ما تصورت أنه بالإمكان أن نتفائل و نحن نتكلم عن واقع الكراهية.
العزله هي السبب
اعتقد بأن اهم عناصر انتشار الكراهيه هي العزلة التي ينشر صاحبها تلك الكراهيات ولو ان صاحبها عاش وترعرع في مجالسة الآخر فأكيد سوف تخف او تقل من حدة الكراهيات
الكلباني كارها
تحية لك أخي الدكتور نادر. يسعدني هذا التواصل والتقدم في مشروعك. الكلباني مثال يستحق وقفة تأمل، فهو وأبناء "جلدته" لا يزالون يعانون من الانتقاص والكراهية في مجتمعهم، ولكنه سرعان ما تقمص ثوب الجلاد بمجرد أن أوتي مكانة ونسي شعور الضحية، وهذه لعمر أبيك أشد الدواهي. حبذا لو أفردت مساحة لهذه الظاهرة - ظاهرة تماهي المستهدف بالكراهية مع الكاره. تقبل مودتي.. د. عباس كاظم
ماذا عن العريفي
لماذا لم يعاقب العريفي الذي شتم السيستاني والشيعة مثل ما عاقبوا الكلباني؟ هل القضية سياسية