قبل بضعة أيام خلت كنت على موعد في زيارة لمراكش، المدينة العريقة المزركشة بالتراث والحضارة و الأدب والثقافة، وبعشق المعرفة.
في مراكش، كل شيء يرمز إلى قيمة الحضارة، حضارة الوجود الإنساني في إشراقات تنفتح فيها على الإنسانية من كبرى بواباتها.
هنا، جمال الطبيعة يقترن مع أصالة الوجود المعرفي، وتتلاقى مع القيم الحضارية في تربية الأجيال على قيم حقوق الإنسان التي أضحت بفضلها التجربة المغربية منارة من منارات الصحوة في التعامل مع مفاهيم حقوق الإنسان من المهد إلى اللحد.
كنت على موعد مع زيارة ميدانية بحثية لثانوية «ابن يوسف للتعليم الأصيل» وهي مدرسة أصيلة كما هو اسمها، وهدف الزيارة الاطلاع على تجربتها المتميزة والفريدة في العالم العربي من مشرقه إلى مغربه.
ثانوية ابن يوسف إحدى 14 مدرسة من «المدارس الصديقة لحقوق الإنسان» في العالم والتي تطبق هذا المشروع بإشراف مباشر من منظمة العفو الدولية/ فرع المغرب.
وفي الطريق إلى «ابن يوسف»، سرق نظري إعلان عريض وجذاب، لافت للانتباه، إنها لوحة منقوش عليها «صيدلية حقوق الإنسان»! ومن حسن الصدف أنها شكلت بالنسبة لي خارطة الطريق للدخول في حوار معرفي حقوقي مع الطاقم المشرف على برنامج التربية على حقوق الإنسان بالمدرسة التي أقوم بزيارتها، هذا الفريق الذي يضم مدرّسين يعملون تطوعا في هذا البرنامج، إلى جانب طلاب وطالبات يعملون كخلايا نحل لتنمية الوعي بحقوق الإنسان ضمن الفضاء المدرسي.
سألت أحد طلاب مدرسة ابن يوسف: لديكم في هذه المدينة صيدلية حقوق الإنسان، كيف تنظرون إليها؟ فأجاب الطالب بنجابته: هذه الصيدلية إطار، والصورة الحقيقية هي «حق الصحة».
ما يدفع المرء للتفاعل مع هذا المشروع هو حجم الحرية الأكاديمية الممنوحة للطلبة (الفئة المستهدفة)، في التعبير عن آرائهم، فلقد قضيت معظم وقتي مع الطلبة وهم يحدثونني عن التقدم الملحوظ في سلوكياتهم بلغة الأرقام بعد تطبيق البرنامج في عامه الأول.
اتفقنا مع الطلبة على إجراء عصف ذهني Brainstorming، بعنوان «صيدلية حقوق الإنسان» لقياس درجة حرارة حقوق الإنسان في المدرسة، فلا بد من تحديد المعايير التي نقيس بواسطتها مستوى نجاح أو فشل المشروع، وذلك بالنظر إلى مستوى البيئة المدرسية قبل وبعد تطبيق المشروع، وفي هذا السياق فإن على الطالب أن يتعرف على حقه ليطالب به ويدافع عنه، ولنأخذ على سبيل المثال «الغش» باعتباره سلوكا واعتداء سافرا على حقوق الطلبة الآخرين الذين يسهرون الليالي ليصلوا إلى مراتب الاجتهاد والتفوق، فلقد استطاعت حملة قام بتنفيذها مجموعة من الطلبة، وذلك بارتدائهم أقمصة «فانيلات» كتب عليها عبارات مناهضة للغش، ليكتشفوا خلال فصل دراسي واحد بأن ظاهرة الغش بدأت تتقلص بشكل تلقائي، كما أن حالات العنف أو التحرُّشات أو الاعتداءات الجنسية أو الهروب من المدرسة أو التسرّب من الفصول الدراسية بدأت هي أيضا في التقلص، لأن الطالب بات شريكا وإيجابيا في تفعيل مفاهيم حقوق الإنسان من خلال تمثلها والاشتراك في صياغة اللوائح والمخالفات والجزاءات المدرسية.
ولأننا اعتدنا ـ في موروثنا الثقافي والأدبي ـ على توصيف رسالة المعلم بأنها تماما كرسالة الرسول، فالمدرس إذن بهذا المعنى يستحق أن يطلق عليه بأنه «طبيبٌ دوَّارٌ بطبِّه»، وهنا نقترب أكثر من مفهوم الصيدلية المنشودة، فثمة مظاهر للعنف في المشهد المدرسي (خصوصا في مدارس البنين) والتي باتت تؤرق كثير من الإدارات المدرسية، بل وحتى إدارات التعليم في وزارة التربية والتعليم ـ وهنا لا أتحدث فقط عن المرحلة الثانوية، بل نجد ذلك في بعض مدارس التعليم الأساسي (البنين)، فكثير من المعلمات يعانين الأمرَّين في ضبط إيقاع العنف بشتى صوره وأنواعه كما لاحظنا مؤخرا، لأسباب منها طبيعة المجتمع الأبوي وتراجع الدافعية لدى الأطفال نتيجة سياسة التمييز التي يمارسها بعض المعلمين بين طالب مجتهد وآخر يعاني من ضعف في التحصيل الدراسي، أو وجود حالة من الاحتقان في المجتمع المدرسي بسبب الإدارات التسلطية، وتكميم أفواه الطلاب عند التعبير عن آرائهم، كما أن ألعاب الأطفال وأفلام الكارتون المشبعة بالعنف تؤثر في سلوكيات الأطفال مثلما تشكل أفلام العنف خطرا على سلوكيات المراهقين.
ولكي يُكتب النجاح لأي مشروع للتربية على حقوق الإنسان في المستقبل، فإنه من الضروري أن نضع بعين الاعتبار أن حقوق الإنسان تبدأ من الفضاء المدرسي أولا لننفتح بعد ذلك على البيئة الخارجية، فإذا تعلم الطالب حق العامل أو الأجير فإنه من دون شك سيُعامل الخادمة في البيت معاملة إنسانية.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، ففي الثالث من ديسمبر/ كانون الأول الماضي 2009 أصدرت وزارة التربية والتعليم على لسان الوكيل المساعد للمناهج والإشراف التربوي بيانا أشارت فيه إلى تشكيل فريق بالوزارة لإعداد خطة في مجال التربية على حقوق الإنسان، وستتولى إعداد وثيقة مرجعية لنشر مبادئ حقوق الإنسان ضمن المنظومة التربوية، وتلك خطوة تستحق الإشادة، لأنها تحمِّلنا ـ كمربين ـ مسئولية أكبر، فعندما نقرأ نظريات التعلم في علم النفس فإننا محكومون بمفهوم العزو (الداخلي والخارجي)، فكلما تحسنت أجواء الديمقراطية والتعددية من خلال تشكيل برلمان مدرسي ومجالس آباء منتخبة يحملون حسا اجتماعيا لكان النجاح مرادفا للعزو الداخلي (أي نستطيع القول بأن الطاقم الإداري والتعليمي ناجح)، وإذا تفاقمت المشاكل وتنامى الاستبداد المدرسي وازدادت وتيرة العنف لكان الفشل مرادفا للعزو الخارجي (أي أننا سنتنصل من مسئولياتنا لنلقي باللائمة على الأسرة ووسائل الإعلام ومؤسسات التنشئة الاجتماعية الأخرى) تماما كما يحصل مع الطالب الذي نجح في نهاية العام فإنه سيعزو ذلك إلى قدراته الذاتية ومثابرته واجتهاده، بينما إذا أخفق فإنه سيعزو ذلك إلى عدم وجود المعلمين من ذوي الكفاءات أو صعوبة المناهج والمقررات الدراسية وهلمَّ جرا.
ولكن في نهاية المطاف نقول: إذا كان معنى شعار الصيدليات في العالم (الثعبان يلف الكأس) يحمل دلالة رمزية لإله الطب عند الإغريق، فإن حصول صاحب الصيدلية على سجل تجاري تحت مسمى «صيدلية حقوق الإنسان» قد يكون أهم من الناحية المعرفية
إقرأ أيضا لـ "فاضل حبيب"العدد 2746 - السبت 13 مارس 2010م الموافق 27 ربيع الاول 1431هـ
رسالة شكر
طلبة الصف 4 علم 1 بمدرسة التعاون الثانوية للبنين تشكر الأستاذ القدير فاضل حبيب على هذه المقالات المتميزة والمفيدة للغاية . ، .
سائلين المولى العزيز القدير أن يوفقكم لكل ما يُحبُ ويرضى ...
4 علم 1
دكتور فاضل (بومحمد) موضوع شيق يستحق البحث فيه
فعلا بومحمد الموضوع ششيق يستحق البحث فيه واعتقد بأنه سوف يساعدك يا دكتور في اكمال مهمتك الدراسية بنجاح وبتفوق كما عهدتك دائما وربي يوفقك اخوك بومحمد
شكراً على المقال الرائع
سلمت يداك أستاذ، ياريت الوزارة تطبق فعلاً اللي كتبته خصوصاً في موضوع الغش، مو بس تسوي لجنة على الفاضي.