دهام حسن - كاتب سوري، والمقال ينشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org»
بداية علينا أن نعلم أن الأخلاق نتاج اجتماعي، تنبثق عن المجتمع، فتتمظهر على شكل قواعد وضوابط كرادع أدبي، يتعين على الفرد التقيد بها استجابة منه لمتطلبات هذا المجتمع.. وبوسعنا أن نقول، إن الأخلاق كخصلة، ليست هبة من أحد، ولم يجد بها عقل مفكر، وليست مغروسة في الإنسان منذ الولادة، وغالبا ما، لا تملك الطابع المادي الرادع، فضلا من أنها ليست شيئا ثابتا، فهي كما قلنا صناعة اجتماعية، فبتغير المجتمع لا بد أن تتغير الأخلاق، أو تختلف نظرة المجتمع في مقاربة الأخلاق بالتعريف...
باعتقادي أن الاعتماد على الجانب الأخلاقي وحده في اختيارنا للمسئول الحزبي، أو الوظيفي غير كافٍ، بل أتجرأ وأقول بأنه حتى غير مجد... أن الدراسات العلمية، أوضحت أن الإنسان بشكله المكوّن أو المتبلور، ليس إلا مجموعة من العلاقات الاجتماعية، وبتغير تلك العلاقات لا بد للإنسان نفسه أن يتغير.
لا أعتقد أن الأخلاق ضابط وضامن لسلوك الفرد، ويمكن بالتالي الاكتفاء بها والركون إليها، في اختيارنا أو خياراتنا، وهذا لا ينفي أبدا الوازع الأدبي الذي تملكه الأخلاق في الإنسان، وبما له من سلطة، لكن السلطة تبقى أدبية اجتماعية...
لا بد إذا من ضوابط تتحكم بكل هؤلاء، ويمتثل لها الجميع بلا استثناء، وهذه الضوابط تملك من القوة المادية ما تتيح لها فرض قوانينها على الجميع ، بحيث يمتثل لها الجميع دون استثناء... الإنسان كثيرا ما تحركه غرائزه باتجاه فرض هيمنته على الآخر، سواء أكان هذا الآخر حزبا سياسيا أو قطاعا اجتماعيا، فإذا لم تكن هناك من قوة رادعة له، فهو لن يرتدع أخلاقيا، ولن يتورع عن الإيغال في الخطيئة، هذا، إذا لم يلجمه ضابط مادي رادع له.
يحضرني هنا قول المرأة المسلمة التي نادت بوجه الخليفة الراشدي أبي بكر الصديق: «والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا» ردا على قول الخليفة، بعد أن ولي أمر المسلمين ــ إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني ـ أي أن لديها من القوة ما تمكنها الجهر بهكذا قول، وبمثل هذا العنفوان، الذي تجسد بقوة مادية رادعة، ومثل هذه القوة الرادعة تمكّن الرعية من أن تجعل أولي الأمر من أن يستقيموا مختارين أو مرغمين، أي لن نسمح لأولي الأمر، ولن ندعهم يتصرفون على هواهم وكما يحلو لهم، بل سنكون لهم بالمرصاد، وسنحاسبهم، ولن ننظم العلاقة على التواكل، أو على الثقة فقط. أما المثالية في التناول، فغير محبّذ وغير مجدٍ البتة، كقولنا، فلان جيد، فليته شغل الموقع الفلاني، بديلا عن الفلان السيئ.. مثل هذا التفكير يفتقد للحجة والإقناع، وهو ضرب من التواكل، وفرط من الثقة غير جائز، ولا يستند على أساس علمي، فلا بد إذا من ضوابط تقوّم العلاقات، عملا بقول الرسول الكريم في وجيز عبارته، عندما توجه إلى الإعرابي الذي أراد أن يدع راحلته تسرح دون ربط أو قيد، مستغنيا عن ذلك بالتوكل على الله، عندها قال له الرسول(ص): «اعقلها وتوكل على الله».
أبدا لا يجوز تناسي إغراء الموقع السياسي، الذي يمكن أن يدفع باتجاه الأنانية والذاتية المفرطة. أعرف أن قائدا حزبيا ظل في أمانة الحزب نحو ستة عقود، أي من المهد إلى اللحد، وهو في عجز صحي، بسبب كبر سنه وشيخوخته،. آخر قال لمنافسه المحاور، هذا الكرسي لي، ولن أتخلى عنه، فإن استطعت فانتزعه مني. وهنا نتساءل: أين فاعلية المبادئ والقيم والأخلاق والنظام الداخلي؟
كل هذه العناصر يفصلها بنو البشر على مقاسهم، وكثير منها يبقى حبرا على ورق، لا يترجم على صعيد الواقع، إلا إذا ما مالت كف من يتشبث بتلك المبادئ، وبالتالي يخلق عبر هذا الصراع ما يشبه التوازن في المصالح، ومن ثم التهادن، والتوافق على صيغ أخرى، يرتضي بها الأفرقاء المتخاصمون، وفق المعادلة الجديدة، التي تفرزها موازين القوى...
ربما أحدنا يثير تساؤلات مشروعة، من أن هناك أناسا يلتزمون بالقواعد الأخلاقية دون ضغط أو إكراه... أقول نعم، لكنهم قلة ولكل قاعدة استثناءات، فضلا من أنه رأي لا يمكن أن يسود ولا أن يعتد به، بل أكثر من ذلك فقد تجد عالما ثوريا، ينحدر من طبقة ثرية، وفي انعطافات تاريخية (يخون) طبقته... مثل هؤلاء، ربما يراقبون حركة التاريخ، ويدركون مساره، ثم يناصرون المآل المفضي إليه السيرورة التاريخية، عندما يقرؤون حلول أوان أفول الطبقة المسيطرة، لتفسح الطريق أمام طبقة جديدة واعدة، فيناصرها الثوري بالتالي بفكره... وفي الأيديولوجية الألمانية يقول ماركس وإنجلز: «إن تبدل الشخص نفسه، يترافق في النشاط الثوري مع تحول الظروف»، أي أن تغير الظروف ينجم عنه تبدل الشخص نفسه...
كثيرا ما تكلمنا عن الضوابط وكأنها أمر نتفق حول مفهومه أو تعريفه، أو كأنها شيء ملموس نتحسسه، وفي الحقيقة، لا تظهر تلك الضوابط إلا في ميدان الصراع، أي بين الأفرقاء المتنازعين؛ أي أن تلك الضوابط والقواعد وليدة الصراع، فالذي يمتلك القوة يهيمن ويفرض أجندته على الآخر، رغم الغبن الذي يحسه هذا الآخر، وفي مرحلة لاحقة تتوازن القوى لدرجة ما، ويشعر ذلك القوي أنه صار يفقد سطوته تدريجيا، رغم إحساسه بأن الحق غير مما كان يفرضه على الآخر، وعبر هذا الصراع، وبعد أن تتعادل نسبيا موازين القوى، ولم يعد للهيمنة الفردية أساس مادي، ويستمر مثل هذا التوازن في رجحان وثبات لن يتوقف، وخلال هذا يتثقف الناس، وتعود العنوة والاضطهاد من الماضي غير محبذين، ولم يعد الناس يسكتون عن الخطأ، بل صاروا يدعون إلى محاسبة المسيء، لتتحول تلك الضوابط إلى قواعد تتجسد بقوة، يتفهمها الناس، ويتقبلها الجميع، لأن تجاوز ما اتفق عليه، يعرض صاحبه إلى تحمل المسئولية والمحاسبة، وهي سوف تتهذب أكثر بمضي الأيام، فالناس يضفون عليها من تجاربهم ما هو أفضل وأكثر اتساقا مع الظرف المتجدد أبدا...
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 2742 - الثلثاء 09 مارس 2010م الموافق 23 ربيع الاول 1431هـ