إن التمييز بين الدولة والمجال العام تمييز ضروري؛ لأنه شرط أولي لظهور المجال العام. إلا أن هذا لا ينبغي أن يحجب عنا حقيقة مهمة، وهي أن نشوء الدولة هو الذي سمح بنشوء المجال العام، فالدولة التي شبكت جميع مواطنيها بشبكة عمومية من الروابط، وأتاحت لهم فرصة اللقاء والتواصل في مساحات ومواقع عمومية لا تخضع لمكية خصوصية لا لأشخاص ولا لجماعات أو طوائف أو قوميات، هذه الدولة هي التي مهّدت الطريق أمام نشوء المجال العام. وقد تضافر هذان القادمان الجديدان معا، الدولة والمجال العام، من أجل «كبت الكراهية»، وتضييق الخناق على المجاهرة علنا بالكراهيات المنفلتة وأشكال الاستفزاز والتحقير والسخرية والإهانة وتشويه السمعة والتحريض.
لقد فرضت الدولة وجودها كمجموعة من الانضباطات العمومية على الجميع، وصار بإمكانها، وبقوة القانون وأجهزة الأمن الخاضعة لها، أن تحظر على مواطنيها (وجميع المقيمين على أراضيها) إنتاج كل أشكال الكراهيات المنفلتة وتداولها، بحيث صار أي تعبير علني (بالقول أو الكتابة أو الرسم أو الإشارة أو السلوك) عن هذا النوع من الكراهيات يعدّ من الجرائم التي تضع صاحبها تحت طائلة المساءلة القانونية، وإذا ما أدين بهذه الجريمة ستطبق عليه العقوبات المقررة بالغرامات المالية أو حتى بالحبس لمدد زمنية تختلف من دولة إلى أخرى. وفي البحرين، على سبيل المثال، ينص قانون العقوبات في المادة (172) بأنه يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن سنتين وبالغرامة التي لا تزيد عن مائتي دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين «كل من حرّض بطريق من طرق العلانية على بغض طائفة من الناس أو الازدراء بها، إذا كان من شأن هذا التحريض اضطراب السلم العام»، فيما تخفف المادة (309) هذه العقوبة إلى الحبس مدة لا تزيد عن سنة أو بالغرامة التي تزيد عن مئة دينار، وذلك بحق كل «من تعدى بإحدى طرق العلانية على إحدى الملل المعترف بها أو حقّر من شعائرها»، وتنص المادة (310/1، 2، 3) على العقوبة ذاتها بحق كل «من طبع أو نشر كتابا مقدسا لدى أهل ملة معترف بها» بقصد التحقير من «أحكامه وتعاليمه»، وبحق كل «من أهان علنا رمزا أو شخصا يكون موضع تمجيد أو تقديس لدى أهل ملة»، وبحق كل «من قلّد علنا نسكا أو حفلا دينيا بقصد السخرية منه». كما تجرّم المادتين (364) و(365) القذف العلني والمساس بالعرض وخدش الشرف والسمعة والسبّ. وتجرّم المادة (370) نشر الأخبار والصور والتعليقات المتصلة بالحياة الخاصة والعائلية إذا كان من شأن نشرها الإساءة إليهم. كما تنص (المادة 38) من مرسوم بقانون رقم (47) لسنة 2002 بشأن تنظيم الصحافة والطباعة والنشر، على التزام «الصحفي بالامتناع عن الانحياز إلى الدعوات العنصرية أو التي تنطوي على ازدراء الأديان أو الدعوة إلى كراهيتها أو الطعن في إيمان أو ترويج التمييز أو الاحتقار لرأي طائفة من طوائف المجتمع». وتعاقب (المادة 69) بغرامة لا تزيد عن ألفي دينار كل من نشر ما من شأنه «التحريض على بغض طائفة أو طوائف من الناس، أو على الازدراء بها».
أصبحت الكراهيات المنفلتة والإهانات والتحقيرات جرائم يعاقب عليها بالغرامات أو بالحبس. وهذا تجريم تجده في البحرين كما تجده في معظم دول العالم اليوم، تجده في الهند وكندا وفرنسا وألمانيا وصربيا والدنمارك وأستراليا وأيرلندا والمملكة المتحدة وهولندا والنرويج وفنلندا والسويد وسويسرا وكرواتيا والنمسا ونيوزلندا وسنغافورة وجنوب أفريقيا وتركيا والأردن ومصر والكويت وغيرها.
لم يكن هذا التجريم معهودا بهذه الصورة المشددة والمعممة في كل تاريخ البشرية، لكنه اليوم أصبح حالة عامة، فلم تعد القوانين تتسامح مع الكراهيات المنفلتة وأشكال الإهانة والتحقير والاستفزاز، ولا مع التحريض على الكراهية والعنف والتمييز بين الناس بسبب الدين والعرق واللون والقومية والجنس والميول الجنسية والإعاقة. وينبغي الاستدراك هنا؛ لأن هذا لا يعني أننا سنحتفل قريبا بنهاية الكراهية وانقراضها، فهذا مطلب بعيد المنال، ولكن الثابت أن البشر لم يعودوا، بعد هذا التقنين المعمم، أحرارا في إنتاج كراهياتهم المنفلتة والمجاهرة بها وإشهارها علنا كما يشاءون وفي أي وقت ومكان ومناسبة، فهذه القوانين لهم بالمرصاد ويمكن أن تشهر في وجههم مع أي خطاب كراهية يصدر عنهم، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى. فنحن نتذكر في البحرين أن وزير العدل والشؤون الإسلامية، وبناء على طلب من النيابة العامة، طلب من رئيس مجلس النواب في فبراير/شباط 2009 رفع الحصانة البرلمانية عن أحد النواب، وذلك بعد أن قام مواطنون برفع دعوى ضد هذا النائب تتهمه بالقذف والسب والتحقير والتحريض على كراهية طائفة من طوائف المجتمع في خطب الجمعة، وخاصة خطبة الجمعة في 2 يناير/كانون الثاني 2009 والذي يتحدث فيها عن «صهاينة البحرين». وقبل هذه الدعوى التي لم تأخذ مجراها في القضاء لكون مجلس النواب قد رفض رفع الحصانة عن النائب، كان قد سبق لوزير العدل والشئون الإسلامية أن اتخذ قرارا بإيقاف هذا النائب عن الخطابة ونقله من جامع إلى آخر.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2008 كان الخطيب الحسيني محمد باقر الفالي قد تسبب في أزمة سياسية في الكويت على خلفية دخوله البلاد بعد صدور حكم قضائي أولي يقضي بإبعاده عن البلاد بسبب خطبه الدينية التي قيل إنها تنطوي على «سبّ للصحابة» و»إثارة الفتن الطائفية». وفي 19 ديسمبر/كانون الأول 2009 أوقفت الحكومة الكويتية بثّ قناة «السور» الخاصة إثر قيام الآلاف من أبناء القبائل في الكويت بالاعتصام احتجاجا على برنامج تلفزيوني بُثّ على هذه القناة وتضمّن إهانات للبدو وأبناء القبائل. وفي العام 2009 طلبت محكمة في أمستردام باتخاذ الإجراءات القانونية ضد جيرت فيلدرز، زعيم «حزب الحرية» اليميني المتطرف ومنتج فيلم «فتنة» 2008، بتهمة التحريض على الكراهية ضد الإسلام والمسلمين، كما مَثُل فيلدرز أمام المحكمة مرة أخرى بتاريخ 20 يناير 2010 بتهمة التحريض على كراهية المسلمين. وفي فرنسا أدين كثير من الكتاب بتهمة معاداة السامية وإنكار الهولوكوست. وفي 2008 أدانت المحكمة الفرنسية بريجيت باردو، الممثلة والمدافعة عن حقوق الحيوان، بجريمة التحريض على الكراهية العنصرية ضد المسلمين. وفي العام 2008، اعتقلت حكومة ولاية أوتار براديش بشمال الهند فارون غاندي، حفيد رئيسة وزراء الهند الراحلة أنديرا غاندي والمرشّح عن الحزب الهندوسي القومي «بهاراتيا جاناتا»، بتهمة «الإدلاء بتصريحات معادية للمسلمين». وفي النمسا فتحت السلطات، في العام 2008، تحقيقا حول تورّط سوزان وينتر، نائبة يمينية في البرلمان، في التحريض على الكراهية العرقية من خلال تصريحاتها المسيئة للنبي محمد والمسلمين. وفي فبراير 2009 احتجّ الفاتيكان ومجموعات مسيحية داخل «إسرائيل» لدى الحكومة الإسرائيلية على عرض تلفزيوني إسرائيلي يسخر من المسيح ومريم العذراء وبُثّ على القناة الإسرائيلية العاشرة، فبادرت الحكومة الإسرائيلية إلى الاتصال بالقناة التي قدّمت اعتذارها للمسيحيين وتعهدّت بعدم بثّ هذه المواد مرة أخرى. والأمثلة على ذلك كثيرة.
وإذا ما غفا القانون وتكاسلت أجهزة الدولة ومؤسساتها عن ملاحقة الكراهيات المنفلتة وأصحابها، فإن قوى المجال العام لا تغفو، وهي ترصد وتحرّض الرأي العام ضد كل هتك واضطراب واستفزاز يتعرض له المجال العام والسلم العام بسبب خطابات الكراهية والتحريض والتحقير أو حتى ما يفهم على أنه كذلك. وهنا لا تقوم الدولة، بأجهزتها وقوانينها، بدور الردع وكبت الكراهية، بل تتصدى قوى المجال العام لذلك من خلال تحركات وتظاهرات واعتصامات واحتجاجات ومقاطعات وتهديدات وبيانات ومطالبات عامة تجري على الأرض أو تتوسّل بوسائل الإعلام لإيصال صوتها. وهي وإن لم يكن لها صفة الرسمية، إلا أنها تمتلك من القوة ما يؤمن لها النفوذ والتأثير وفاعلية الردع. والأمثلة على ذلك كثيرة أيضا. ومن بين الحوادث الكاشفة في هذا السياق حادثة طرد نجمة تلفزيون الواقع البريطانية «جيد جودي» من برنامج «الأخ الأكبر»، بعد أن صوّت الجمهور في يناير 2007 على طردها على إثر اتهامها بالعنصرية والتعدي اللفظي على نجمة السينما الهندية «شيلبا شيتي»، الأمر الذي أثار احتجاجا واسعا في بريطانيا والهند، كما قام حوالي 40 ألف شخص برفع شكاوى إلى المنظمات الحقوقية بهذا الشأن، وتصدرت هذه الإساءة عناوين الصحف في بريطانيا والهند.
لم تعد مناهضة الكراهيات المنفلتة حكرا على الأعراق والطوائف التي عانت تاريخيا من كراهيات عريقة استهدفتها كما هو حال السود واليهود والشرقيين والنساء، بل إن كل الجماعات اليوم لم تعد تحتمل كراهية توجّه إليها بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بما فيها الجماعات الجديدة، والمثليون مثال واضح على قدرة الجماعات الجديدة على مقاومة خطاب الكراهية وكبته خارجيا، فنحن نتذكر أن لقب ملكة جمال كاليفورنيا قد سحب في العام 2009 من كاري بريجين، بعد أن أثارت ضجة واسعة بتصريحها أثناء المسابقة في أبريل/نيسان 2009 حين سئلت عن رأيها في الزواج المثلي، فقالت إنها «تعارضه»، وهو ما اعتبر خطاب كراهية ضد المثليين. ويمكن، بالمثل، أن نشهد، اليوم، ضجة كبيرة تحدث بسبب تصريح أو عرض تلفزيوني يعتبر مسيئا بحق ذوي الاحتياجات الخاصة، أو بحق المرضى النفسيين، أو بحق فئة مهنية معينة مثل المعلمين أو الأطباء أو المعالجين النفسيين أو غيرهم.
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 2741 - الإثنين 08 مارس 2010م الموافق 22 ربيع الاول 1431هـ
انشاء الله التنسيق مع امريكا هو هدفنا؟؟؟؟؟؟؟
بلاء العالم من الارهابين هو تجفيف منابع المال والفكر ؟؟؟والمعروف بان المذهب الوهابي ومايملكة رجالة من اموال هو سبب بلاء المسلمين قاطبة ؟؟؟فعلية سنقوم بالتنسيق مع امريكا لمحو هذا المذهب الارهابي وانشاء الله يكون ذلك مجرد وقت ...ونقول اخيرا سترتفع راية العدل بدل الارهاب من قبل الوهابين الدمويين والحمد الله بانكم اقلية من المذاهب السنية المعتدلة اساسا؟؟المليارات ستتوقف عاجلا ام اجلا يالحبيب وسترجعون للكهوف تورا بورا لرعي الاغنام ؟؟؟؟؟؟
الكراهية ... وما أدراكم ما الكراهية
تنبهت العديد من دول العالم إلى التأثيرات السُميّة والثائرة بنوبات اضطرابية ، إثر تناول جرعات من الكراهية والمُصدّرة من مصانع إنتاج وتوزيع نفايات حقدية لا أخلاقية ،هنا وقفت "الدول" لتحتكم بتطبيق القوانين الدستورية الشرعية ؛لينعم فضائها بالإستقرارية . هذا وفي حالات (الغفو القانونية و الصمت الإرادية والوقفة التخاذلية ) تبرز جلادة المجال العام وبكل جاهزية ليصفع التهكمات المرضية . كل الشكر للكاتب وللوسط ... نهوض
إلى زائر رقم 9
الزائر رقم 9 كلامك هو الفارغ وصدق إنك طائفي أعمته الكراهية عن الحقيقة. لأن الكلام الذي يطرحه الكاتب موضوعي ولا يستدعي كلامك الفارغ
كلام فارغ
شعنده العبقري انت اول ركز على مذكبك الى قام اصلا على الطائفية والتمييز والتهميش ... ادا كنتوا تتكلمون عن الطائفية والتمييز فاول شي حاسبوا انفسكم
قوانين
المواد المذكوره فى قانون العقوبات منطقيه نوعا ما لكن الخلل فى التطبيق فمقالات التحريض والكراهيه تزخر بها صحفنا وخطب الجمعه تصدح ببث سموم التفريق والذم والقذح بل تعدى الامر للدعوه للمعاداة والتفريق , انا ارى انا الدوله يجب ان تقوم بواجبها فى المحافظه على نسيج الاخوه و الوئام المهترأ اذا ارادت السلام
الاخ زائر رقم 5
انا قصدت "برجال القانون" هنا المحامون مثلا.... و جميع اصحاب الصفات القانونية - يعني اي شخص مواطن من الطائفة الشيعية -... وبالمناسبة حبذا لوتم توجيه دعاوى ضد اصحاب مقولة "الهلال الشيعي" و مقولة " ان ولاء الشيعة لغير اوطانهم" وكذا المنتديات الطائفية العفنة المريضة و جميع العاملين عليها كونهم شركاء في الجرائم .. وتوجية رسائل الى المعنين في وزارة الاعلام لوقف بث سمومهم هذة المنتديات في الوطن
القوانين موجود وتحتاج من ينفذها
القوانين موجودة ولا تحتاج الا لمن ينفذها ومن أجل تنفيذها لا بد من الترافع أمام المحاكم وإثبات صدور هذه الكراهيات المنفلتة. والمتضرر من الكراهية لا ينتظر من الدولة ان تترافع عنه بل هو لازم يتحرك ويترافع عن نفسه ويطالب بحقه وما في حق ضاع وراه مطالب
اتخاذ إجراءات قانونية
لماذا لا تتم محاكمة كل من يتجاوز القانون اذا؟؟ ولما لا يتم تقديم اعضاء بعض المنتديات الالكترونية العاملة من مملكة البحرين للقضاء؟!! فهم لا يتورعون عن سب وقذف و اهانة معتقدات طائفة بإكملها.... اين رجال القانون؟!
ان دولة قانون مادة 56 تحمي المعدبين
فأي دولة فيها قانون يمكن ان يكون فيها قانون لكن وين القانون في هلبلد ؟؟
النائب مازال يسرح ويمرح
النائب اللي تشير إليه يا دكتورنا مازال يسرح ويمرح بكراهياته المنفلتة والدولة ساكتة ولا همنها
الى متى
والاخطر عندما تمارس الدولة الكراهية وتزرعها وترسخها وتكرسها عن طريق التجنيس السياسيى وتغير التركيبة السكانية والهوية العربية وزرع الطائفية والكراهية والتميز
الظلم ظلمات
هذا الحاصل لدينا هو اغماض العين عن رؤوس الفتنة