في نهايات القرن التاسع عشر كما في نهايات القرن العشرين لعبت فتاوى الحلال والحرام دورا اساسيا في اسقاط آخر امبراطوريتين إيرانيتين عرفتهما بلاد فارس هما الامبراطورية القاجارية والامبراطورية الشاهنشاهية البهلوية.
ففي السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر اضطر ناصرالدين شاه القاجاري الى التراجع عن قانون منح امتياز التنباك (التبغ) للانجليز بعد وصول تأثير فتوى علماء العراق وإيران بتحريم استعماله الى داخل اسوار قصره حتى قيل انه عندما طلب في آخر مرة بأن يأتوا اليه بالغليون أو «الشيشة» كعادته، قال له الخدم: «إنه لم تبق ولا واحدة منها في كل انحاء القصر لأن زوجتك أمرت بتحطيمها جميعا»، ولما استدعى حرمه على عجل لمعرفة حقيقة الأمر قالت له بالحرف الواحد: «الذي حللني عليك حرم استعمال التنباك اليوم»! وذلك في اشارة الى فتوى الشيرازي الشهيرة التي قال فيها: «اليوم استعمال التنباك حرام».
ومن يومها بدأ التراجع عن قرار منح امتياز التنباك وصولا الى «تجميع» عدة الامبراطورية القاجارية وعديدها مع بدايات القرن العشرين والثورة الدستورية الشهيرة في العام 1906 والتي انتهت بتفكيك تلك الامبراطورية.
الشيء نفسه حصل مع امبراطورية محمد رضا بهلوي في نهاية السبعينات عندما اصطدم بفتاوى العلماء وعلى رأسهم الامام روح الله الخميني والذين طوروا معارك التغيير والإصلاح ضد الإدارة الفاسدة آنذاك ليصلوا الى معركة الافتاء بحرمة اعانة الحاكم الظالم على شعبه، الأمر الذي جعل من حرس «الخالدون» وهم الحرس الامبراطوري الخاص يتلقون «تعليمات» أو أوامر صارمة من زوجاتهم - كما تقول الروايات المتواترة - بعدم اعانة الشاه ضد الخميني والشعب الذي كان ينتفض يوميا في الشوارع ضد الحكم بشكل مظاهرات عارمة أخذت تهدد اركان الحكم. وقد كن يقلن لأزواجهم كلمة السر نفسها التي قالتها زوجة ناصرالدين شاه للملك المعظم في نهايات القرن التاسع عشر: «الذي حللني عليك يحرم عليك اليوم التعاون مع الاجنبي»، وذلك بعد ان تحول شاه إيران محمدرضا الى منفذ تابع للاجنبي.
وفعلا لم «ينفرط» عقد نظام محمدرضا بهلوي إلا بعد ان انفرط عقد حرس «الخالدون» وقرر الالتحاق بالشعب عملا بفتوى العلماء.
والآن، كم هو ساذج توماس فريدمان هذا عندما نقرأ له مقالته الأخيرة التي نشرها في «نيويورك تايمز» ونشرتها له «الشرق الأوسط» وهو يحذر إدارته الأميركية من عدم اجادتها لما يسمية «استخدام المطرقة والسندان» مع الشعب العراقي!!
توماس اليساري السابق والمدلل اليوم لدى دوائر المحافظين اليمنيين الجدد المدعومين من دوائر اليمين الإسرائيلي الإرهابي، والذي تفاخر علنا في احدى محاضراته في مدينة شرق اوسطية عربية بأنه صهيوني ملتزم يقول في مقالته الشهيرة تحت عنوان: «مستوى ما من حرب اهلية مطلوب!»:
«يبقى السؤال الذي طالما طرحته عن فريق العمل التابع لبوش، ومدى جدارتهم في تحويل المبادئ الى ممارسات؟ فهم يجيدون بشكل متمكن تحطيم الأشياء واء كانت معاهدة الحد من الأسلحة البالستية أو اتفاق كيوتو وافغانستان والعراق أم طريقة العمل السابقة في صنع السلام بين العرب وإسرائيل»، ثم يضيف: «... لكن ما مدى اجادتهم لاستخدام المطرقة والسندان؟...» الى ان يصل للقول: «... لكن في هذه المرحلة يجب علينا الاستفادة من قوتنا... وتلك مسألة شاقة، لأنها تعني تبني صدمات سياسية وعسكرية... يجب علينا اغراق العراق بالناس والمال في الحال... لقد دمرنا الأعمدة المغلقة للقومية العراقية العلمانية، والآن نحن بحاجة الى احلال بدائل متطورة لأعمدة قومية العراق العلمانية. ما لم نفعل فإن القومية الدينية الشيعية ستملأ الفراغ»!!
إنها دعوة واضحة لا ريب فيها لاشعال حرب أهلية بمساعدة قوات الاحتلال.
لكن توماس فريدمان هذا، وبالمناسبة مثله مثل الكثير من نخبنا الليبرالية البائسة وخصوصا تلك التي تعيش في المنافي ولا تفقه من أمور شعبها وأمتها شيئا إلا ما تقرأه من أمثال توماس فريدمان، هؤلاء لايزالون يظنون ان بإمكانهم تسيير الشعوب بفرمانات الجنرالات أو الحكام الأجانب بفضل اختلال ميزان القوى لغير صالح «الأصوليين» وكل أشكال وأنواع الحركات والأحزاب القومية والإسلامية المعروفة في الوطن العربي والإسلامي. ناسين أو متناسين أن الكتل الجماهيرية الكبرى في مختلف أقطارنا العربية والإسلامية لم تتحرك يوما بناء على أوامر الأحزاب بقدر ما كانت ولاتزال تتحرك بناء على القناعات والأفكار الراسخة التي كونتها عبر القرون والعصور ومنها فتاوى العلماء. وفي اللحظة التاريخية المناسبة وعندما يجدّ الجد ستكون لهذه الثقافة الكامنة كلمتها الأخيرة والفاصلة.
هذه هي الحال في العراق كما في فلسطين كما في إيران كما هي الحال على امتداد الهلال الاسلامي المعروف، ويخطئ توماس فريدمان إذا أراد ان يقارن بين سهولة اسقاط نظامي طالبان وصدام حسين وسهولة إمكان صنع بديل أميركي علماني!!
ففي الحال الأولى كان خصمه المفترض أنظمة كارتونية من «صنعه» في حين انه في الحال الثانية أمام خصم عنيد هو من «صنع» رب العالمين، وفي الحالتين فإن الحكمة تقول إن الاستعمار ما دخل بلادا إلا خرج منها ذليلا، وما دخل الاسلام بلادا إلا تخلد فيها
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 274 - الجمعة 06 يونيو 2003م الموافق 05 ربيع الثاني 1424هـ