القضية الثانية التي ركز عليها رئيس وزراء الهندي مانموهان سينغ، كانت الجالية الهندية في الخليج، والتي تشكل نسبة عالية من الجالية الأجنبية المقيمة في الخليج، والتي باتت تثير الكثير من القلق لدى المواطن الخليجي، لما تشكله من خطورة مباشرة على الصعيدين الحضاري والديمغرافي. ولا يمكن توجيه لوم المواطن الخليجي على هذا الشعور للأسباب التالية:
1. النسبة السكانية التي تشكلها الكتلة البشرية الأجنبية في منطقة الخليج، والتي تصل في دولة مثل الإمارات العربية المتحدة إلى ما يربو على 80 في المئة من عدد السكان، ولا تقل عن 60 في المئة في دولة مثل السعودية، والغالبية منها قادمة من شبه القارة الهندية، وما تحمله هذه الكتلة من تهديد، وفي أفضل الأحوال تحدٍّ للنسق الثقافي/ الحضاري الخليجي. هذه الحالة تكاد أن تكون فريدة من نوعها في التاريخ الإنساني، باستثناء الولايات المتحدة التي جرى فيها إزالة تامة للحضارة الأصلية، وتهميش كامل للسكان الأصليين.
2. نزف الموارد الاقتصادية التي تأخذ شكل تحويلات مالية تبعث بها الجاليات المقيمة ومن بيها الجالية الهندية، إلى بلدانها الأم، والتي قدرها بعض المصادر بعشرات المليارات من الدولارات كل عام، تغادر الخليج، ومن بينها السعودية بطبيعة الحال، إما للإنفاق على عائلة المقيم الأجنبي التي لم تفد معه، أو للاستثمار في المشروعات الصغيرة، وبعضها ذات طابع فردي، والتي تحرمه منها قوانين وأنظمة ممارسة العمل التجاري في السعودية، الأمر الذي يحرم السعودية من تراكم مالي ضخم، ويحرم مشاريعها الصغيرة أيضا من أموال كانت السوق السعودية المصدر الأصلي لها. وتلخص دراسة قام بها برنامج التكامل الاقتصادي بالأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي وبدعم من الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، وحملت عنوان «تحويلات العمال الأجانب في السعودية - دراسة تحليلية لنتائج مسح استطلاعي»، ونشرتها صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، حالة الاستنزاف هذه، إذ «تشكل تحويلات العمالة الأجنبية من السعودية عبئا ملحوظا على ميزان المدفوعات وقد تم تحويل ما مجموعه 243.8 مليار دولار خلال الفترة 1975 ـ 2001 ما يشكل استنزافا لموارد الدولة. كما أن السعودية تشهد استنزافا حادا في السيولة نتيجة لهروب ما نسبته 54 في المئة من إجمالي دخل العمال الأجانب العاملين لديها والذين يتجاوز عددهم 5 ملايين عامل». وتشير الدراسات الأخيرة إلى أن هذا النزيف في تزايد، فوفقا لما قاله «جون سفاكياناكيس» من البنك السعودي الفرنسي نقلا عن معلومات حكومية، فإن « عدد العمال الأجانب في المملكة يصل إلى تسعة ملايين حولوا خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام 2009 نحو 15 مليار دولار، أي ما يعادل نحو 4 في المئة من إجمالي الناتج الداخلي السعودي». وكانت هذه التحويلات بلغت 18.4 مليار دولار لمجمل العام 2008.
3. المزاحمة المهنية، التي تفرضها الظروف السيئة وغير الملائمة في بلد الجالية الأجنبية، بما فيها الهندية، والتي ترغم نسبة عالية من هذه الجالية على ممارسة الكثير من المهن التي يمكن للسعوديين الانخراط فيها لولا رخص اليد العاملة الهندية، مقارنة بتلك السعودية. الحديث هنا يستثني مهنا مثل خدم المنازل، نظرا لعدم قدرة المواطن السعودي على القيام بها، وكذلك بعض المهن عالية المهارة، وخاصة في قطاع تقنية الاتصالات والمعلومات التي تبزّ الجالية الهندية نظيرتها السعودية، من حيث المهارة المطلوبة، وفي بعض الأحيان المردود المالي المتحصل من ورائها.
هذه العناصر السلبية، يمكن تحويلها إلى مكونات إيجابية، عندما نتمعن فيما كرر قوله، أو التلميح له، سينغ في أكثر من محفل خلال تلك الزيارة التي قام بها إلى السعودية. فبعد أن أبدى امتنانه لما «تلقاه تلك الجالية من حفاوة واستقبال حار»، وجدناه يدعو الدولة السعودية كي تستفيد من وجود تلك الجالية على أراضيها «للمساهمة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية بها».
لا يستطيع أحد أن ينكر صعوبة تحقيق مثل هذه الدعوة على أرض الواقع، نظرا للتراكمات السلبية التي ولدتها قرون من الاحتكاك المباشر غير الواعي بين تلك الجالية وسكان الخليج الأصليين. لكن ليس هناك ما يحول دون تحويل السلبيات إلى إيجابيات من خلال الخطوات التالية:
1. على المستوى الحضاري والسكاني، يمكن للمملكة السعودية، ومعها دول الخليج الأخرى، وضع سياسة سكانية تدريجية، وقابلة للتطبيق، لاستيعاب نسبة معينة مختارة من تلك الجالية، وفق برنامج طويل الأمد، يجري تنفيذه على مراحل. مثل هذه البرنامج يأخذ في الحسبان التخلخل السكاني الخليجي من جهة، وكيفية استيعاب السكان لهذه الجالية، ثقافيا وحضاريا من جهة ثانية. من الطبيعي والمتوقع أن تكون هذه المهمة صعبة ومعقدة، وتحتاج إلى رؤية ثاقبة تراعي كل الظروف القائمة، كي لا تحدث صدمة اجتماعية ثقافية تكون انعكاساتها سلبية وتكون سببا في فشل هذه الخطوة.
2. أما بالنسبة للنزيف الاقتصادي، فليس هناك أفضل من اللجوء إلى القوانين والأنظمة، والاستعانة بالتشريعات، التي تشجع الجاليات الهندية على الاستثمار في البلد الخليجي الذي تقيم فيه، وتكسب عيشها من خلال العمل على أراضيه. وهنا لابد من أن تشتمل تلك التشريعات على عناصر التحفيز، المادية، وليس المعنوية، التي تغري الجالية بتفضيل الفرص التي يتيحها البلد الذي تقيم فيه على تلك التي توفرها بلدانها الأم. والحديث هنا يتجاوز مجرد امتلاك شقة، من أجل الحصول على حق المعيشة، إذ إن المطلوب تحقيقه، أبعد من ذلك بكثير، ويهدف إلى توطين الأموال المهاجرة، واستثمارها في مشروعات منتجة، لا يمنع أن تكون مع مشروعات مماثلة أو مكملة في البلد الأم.
3. وفيما يتعلق بالتزاحم المهني، فإلى جانب رفع مستوى المهارات المهنية لدى السكان الأصليين، يمكن وضع حد أدنى لأجور بعض المهن، بحيث يضطر رب العمل إلى الاستعانة بالمهارات المحلية، شريطة أن تكون مؤهلة، وقادرة على المنافسة. ولعل هذه أصعب المهام، وتقتضي إعادة النظر في مقررات المؤسسات التعليمية والتدريبية من جهة، ودراسة متطلبات سوق العمل من جهة ثانية، لضمان المزاوجة الإيجابية بينهما.
مرة أخرى، لابد من الاعتراف بأن تحويل السلبيات إلى إيجابيات مهمة صعبة ومعقدة، كما إن معالجة أي من تلك السلبيات بشكل مجتزأ لن تعطي النتائج المطلوبة، الراغبة في بناء علاقات إستراتيجية مثمرة، من مستوى تلك التي يتحدث عنها سينغ. وإلى أن يتم ذلك ستواصل السلبيات عملها، وبدلا من علاقات هندية – سعودية بناءة، قد نصطدم باليوم الذي نجدها هدامة ومدمرة. ومن الطبيعي أن تكون الشراكة الهندية - السعودية التي يدعو لها سينغ من النمط الأول البناء.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2736 - الأربعاء 03 مارس 2010م الموافق 17 ربيع الاول 1431هـ
يجب أن تكون هناك ضمانات لعدم الإخلال بالحضارة العربية
الشاهد بأن البعض من حديثي النعمة بالوظيفة لديهم سوء فهم وتقدير..وتعطيل للعقول وتخدير..وتهاون وتقصير..وعمل بالعاطفة دون تفكير.. لم يشوه صورة المؤسسة إلا مثل هذه المفاهيم المعوجة...والأفكار المنحلة...والعقول المختلة وإسناد الأمر إلى غير أهله نتمنى ان تكون التغييرات تلك في الصالح العام وليس للشأن الخاص .مع تحيات ( ندى أحمد)