مسرحية توزيع الأقنعة لحماية الناس من الغازات القاتلة التي باشرتها حكومة الثنائي نتنياهو - ليبرمان تحولت إلى نوع من التهريج السخيف. فالحفلة البكائية التي تلجأ إليها حكومات تل أبيب دائما لإظهار «إسرائيل» في موقع الطرف الضعيف والدولة البريئة المحاطة بالأعداء الذين يهددونها بالدمار والحرق والاقتلاع لم تعد تنطلي حتى على الدول الغربية (أميركا وأوروبا) التي تتعامل معها انطلاقا من معايير ايديولوجية غير مقنعة.
المسرحية أصبحت مضجرة في إشاراتها حتى لو حاولت مقاربة مشهد المحرقة النازية (الهولوكست) والإيحاء بوجود تشابه رمزي بين الأقنعة وأفران الغاز الهتلرية. فهذه المقاربة باتت غير مجدية مع حكومة تتهرب من استحقاقات السلام والمبادرة العربية للمصالحة والدعوات الدولية للتفاوض على قاعدة قرارات الأمم المتحدة.
إذا كانت حكومة تل أبيب خائفة فعلا من الحرب لماذا إذا تتهرب من المفاوضات وتمتنع عن تقبل فكرة المهادنة والمسالمة؟ فمن يخاف الحرب (أقنعة الغاز) يتقبل الخيار الذي وافقت الدول العربية عليه بالإجماع في قمة بيروت. ومن يطالب بالعدالة لا يجنح إلى استخدام كل أساليب الضغط على إدارة باراك أوباما ويعطل عليها جهودها ومحاولاتها التي تطمح لتغيير علاقات الدول في دائرة «الشرق الأوسط».
هناك خيار السلام مطروح على تل أبيب منذ 8 سنوات. وهذا الخيار هو البديل المنطقي عن احتمالات «العسكرة» وتجدد المواجهات العنيفة التي تدعي حكومة تل أبيب الخوف من وقوعها وتقوم بتوزيع الأقنعة للتغطية الفولكورية على رفضها تقبل فكرة التفاوض والمهادنة والموادعة والمسالمة.
حفلة توزيع الأقنعة لا معنى لها حتى أنها فقدت وظيفتها التقليدية في استدراج التعاطف الدولي (الأوروبي والأميركي) لأنها تحصل في توقيت زمني تتهرب خلاله حكومة تل أبيب من «اليد الممدودة» و»مفاوضات وجها لوجه». فمن يخاف من الغازات السامية يعمل على تجنبها من خلال إعلان التأكيد على الخيار السلمي وتقبل الاستحقاقات التي يتطلبها مشروع الدخول في تسوية شاملة لموضوع الاحتلال وما يتصل به من أزمات تقلق دول «الشرق الأوسط».
حكومة الثنائي الإسرائيلي ترفض خيار السلم من جانب وتدعي الخوف من حروب الغاز من جانب آخر في محاولة منها لكسب العطف وشراء الوقت والتغطية على الفضائح التي أخذت بكشف وجوه تحتاج إلى أقنعة تسترها من الملاحقات والمحاكمات.
«إسرائيل» الآن باتت مطالبة بتوضيح الكثير من الملابسات والرد على أسئلة قضائية تتعلق بجوانب تتهمها بخرق الأعراف الدبلوماسية وتجاوز حدود السيادات وارتكاب جرائم حرب ضد المدنيين ومصادرة الأراضي وطرد الناس من بيوتهم وقراهم. وهذه الوجوه السيئة بات من الصعب تغطيتها بالأقنعة وادعاء البراءة والظهور أمام العالم في مشهد الطفل المدلل الذي يحتاج إلى رعاية إنسانية وحماية دولية.
توزيع الأقنعة مشهد مسرحي احترفت تل أبيب استخدامه عند الحاجة للتغطية على أزمات أو استحقاقات أو أسئلة أخذت تضغط عليها للإجابة عنها. هناك تقرير غولدستون ومطالبة الأمم المتحدة بتوضيح مسألة استخدام أسلحة محرمة دوليا وارتكاب جرائم حرب ضد المدنيين. هناك تهرب تل أبيب من المفاوضات ورفضها وقف الاستيطان ومصادرة الأراضي وطرد الأهالي من ديارهم وهدم المنازل وإلحاق الآثار الإسلامية بالاحتلال.
وهناك استخدام «الموساد» جوازات سفر أوروبية وأسترالية ومصارف ائتمان أميركية لتنفيذ جرائم اغتيال بعيدا عن الشبهات. وهناك تكبر «إسرائيل» على الحقوق الفلسطينية والشعوب العربية وتطاولها على حضارة المنطقة واستخفافها بكل ما عرض عليها من مبادرات تجنح للمفاوضة والسلم.
كل هذه الحقائق الميدانية والموضوعية لم يعد بإمكان حكومة الثنائي الإسرائيلي تجاهلها من جهة وادعاء البراءة والطفولة من جهة أخرى. وتوزيع الأقنعة للتغطية على الفضائح وحرف الأنظار عن المأزق وكسب الوقت للتهرب من الإجابة عن الأسئلة المطروحة بشأن دور «الموساد» في اغتيال محمود المبحوح في دبي، حركة مسرحية لا يمكن لها أن تلعب ذلك الدور في إنعاش ذاكرة أوروبا من خلال إرسال إشارات رمزية تقارب مشهد أفران الغاز والمحارق النازية (الهولوكوست) في الحرب العالمية الثانية.
استغباء الشعوب بهذه الطريقة لا يمكن أن يستمر إلى الأبد؛ لأن المطروح على تل أبيب الكثير من الخيارات السلمية التي يمكن أن تجنب المنطقة مخاطر التسلح والعسكرة وما تجلبه من كوارث مادية وبشرية وإنسانية. ورفض حكومة تل أبيب لكل ما هو معروض من بدائل تنقذ المنطقة من الويلات تتحمل هي مسئولية ارتداداته فالسلام المطروح تنجم عنه استحقاقات سياسية لأن العدالة لا يمكن أن تتحقق من دون كلفة. وكلفة السلم مهما ارتفع ثمنها الحقوقي تبقى أفضل بكثير من الخيارات الأخرى... ومنها دراما توزيع الأقنعة على المسرح. فالمشهد المتكرر دخل طور الضجر وفقد مع الزمن وظائف بريقه وجاذبيته ورمزيته.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2736 - الأربعاء 03 مارس 2010م الموافق 17 ربيع الاول 1431هـ