أعلن الزعيم الليبي معمر القذافي يوم الخميس الماضي الموافق 25 فبراير/شباط 2009 الحرب على جنيف عندما دعا إلى «إعلان الجهاد» ضدها، بعد أن وضع سويسرا في دار الحرب بعد أن وصفها بأنها «كافرة»، متخذا من سبب حظر بناء المآذن مبررا لذلك. جاء ذلك في خطبة ألقاها القذافي بمناسبة إحياء ذكرى المولد النبوي الشريف وبحضور عدد من رؤساء ووزراء دول إسلامية وإفريقية، مطالبا تلك الدولة أن تشن «الجهاد على سويسرا بكل الوسائل»، لأن «سويسرا الكافرة الفاجرة»، حسب رأيه، هي «التي تدمر بيوت الله»، داعيا، بينما كان يؤمّ صلاة المغرب في حشد ضم نحو خمسة آلاف شخص في مدينة بنغازي «أي مسلم في أي مكان من العالم يتعامل مع سويسرا، بأنه كافر وضد الإسلام، ضد محمد، ضد الله، ضد القرآن»، كما أوردت وسائل الإعلام.
علينا أن ندرك أن دعوة القذافي هذه تأتي في وقت تمر فيها العلاقات الليبية - السويسرية بأزمة جديدة، في مسلسل توتر العلاقات بينهما، التي تعود إلى صيف 2008 عندما ألقت الشرطة السويسرية القبض على هانبعل نجل الزعيم الليبي معمر القذافي، وزوجته في جنيف «إثر شكوى تقدم بها اثنان من خدمهما بتهمة سوء المعاملة والاعتداء عليهما بالضرب». تلا ذلك تهديد ليبيا بوقف إمدادات النفط عن سويسرا. ثم جاءت قضية رشيد حمداني من السويسري الجنسية المتهم «بممارسة نشاطات اقتصادية غير مرخص بها»، ومعه ماكس غولدي السويسري الجنسية أيضا، حتى نصل إلى المحادثات شبه السرية التي جرت في برلين بألمانيا قبل عدة أيام، بين وفدين من سويسرا وليبيا من أجل إعادة المياه إلى مجاريها بين البلدين، دون أن يرشح عنها ما يشير إلى توصل البلدين إلى نتائج إيجابية.
وتسجيلا للحقيقة، نذكر أن لنجل الرئيس الليبي هانبعل القذافي، البالغ من العمر 34 عاما، وكما تنقل وسائل إعلام محايدة، سوابقَ قضائية في أوروبا، وليس في سويسرا فحسب، ففي العام 2004، «أُدين بتجاوز السرعة المقررة في باريس، كما أُدين حرسه الخاص بالاعتداء على رجال الشرطة. وفي العام 2005 أدانته محكمة فرنسية بتهمة ضرب مرافقته الحامل في فندق باريس، وحكمت عليه بالسجن أربعة شهور مع وقف التنفيذ، وتغريمه ما قيمته 790 دولارا».
لنفترض من أجل الجدل فقط، لو أن كل مسلم، لبى، كما يدعو الرئيس القذافي، هذه الدعوة الجهادية وقاطع سويسرا، بموجب المقاييس التي وضعها القذافي، فسوف نجد أن حفنة ضئيلة من دول العالم تبقى خارج قائمة المقاطعة تلك، التي ستكون طويلة جدا، وربما تشمل دولا إسلامية أيضا، بل وحتى بعض الدول العربية.
لكن بعيدا عن هذه الفرضية، ربما آن الأوان كي نناقش واقع الدبلوماسية العربية، حيث لا يكفّ العديد من الرؤساء العرب، وحتى يومنا هذا، عن مناشدة المواطن العربي، وليس الحكومات العربية فحسب، بأن يهب للتعاطف معهم، والدخول في معارك «مقاطعة آنية « قرروا هم الدخول فيها، منفردين، ودون أخذ استشارته، لا تلبث أن تزول مسبباتها لدى هذا الزعيم العربي أو ذاك، وتعود مجاري الأمور بين دولته وتلك الدولة التي ناشدنا بمقاطعتها إلى مجاريها الحسنة، فنجده إما يتراجع عن دعوات المقاطعة، ويتبدلها بشكل مفاجئ أيضا، إلى مناشدة بمشاركته قرار تحسين العلاقات معها، أو التزام الصمت المطبق، دون أن يسوق مبررات مقنعة في كل حالات المقاطعة أوالعودة إلى سياسة الوئام.
تعكس مثل هذه الدعوات الكثير من الطفولية وعدم النضج السياسيين في الدبلوماسية العربية التي لم تعد تتلائم والقيم الدبلوماسية العالمية، مما يجعل الموقف العربي هزيلا، وغير قابل لكسب التعاطف الدولي مع القضايا التي نطرحها في صفوف المحافل الدولية. فهذا التأرجح السريع بين دعوات المقاطعة الهزيلة، والمهادنة التي تلحقها، تفقد الدبلوماسية العربية الكثير من رزانتها، دع عنك مصداقيتها.
ما هو أخطر من ذلك وأسوأ منه، هو انعكاساتها على المستوى العربي، وحرف الشارع السياسي العربي، في أحيان كثيرة، عن قضاياه المصيرية الإستراتيجية، نحو قضايا هامشية. ويمكننا التدليل على ذلك بسرد الكثير من الأمثلة نكتفي هنا ببعضها الأخير.
اليوم هناك قضايا مصيرية عربية، تتطلب موقفا عربيا متماسكا من مستوى قضية «مستقبل العراق»، هذا البلد العربي الذي تطحن موارده البشرية والطبيعية حروبا داخليا تمنعه عن تنمية تلك الموارد، وتجعله عاجزا، مرغما على ذلك، عن المشاركة في أي مشروع عربي، ليس بالضرورة محصورا في الحقل السياسي.
إلى جانب العراق، وعلى المستوى العربي الشامل أيضا، هناك «قضية اغتيال المبحوح»، بما تحمله من ذيول وتداعيات، تتعلق بمدى تغلغل الموساد في البلاد العربية، واحتمالات انتقال معاركه ضد الفلسطينيين إلى مناطق عربية جديدة من بينها الدول الخليجية.
وفوق هذا وذاك، هناك رياح تفاقم الأزمة الاقتصادية، التي بدأت أعاصيرها تقترب من الشطآن العربية، رغم رفض العديد من الحكومات العربية الاعتراف بذلك، وإصرارها على دفن رؤوسها في الرمال.
هذا على المستوى العربي العام الشامل، وفي وسعنا أن نضيف إليها قضايا قِطرية أخرى، تهم كل دولة عربية على حدة مثل أزمة الصحراء المغربية، وحرب الحوثيين في اليمن، وتآكل الصومال الداخلي.
ربما آن الأوان كي تقف الدول العربية كي تقوم دبلوماسيتها، سواء على المستوى العربي الإقليمي الشامل، أو على مستوى كل قطر على حدة.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2731 - الجمعة 26 فبراير 2010م الموافق 12 ربيع الاول 1431هـ