عندما أعلنت خلال يناير/ كانون الثاني 2010م، أن معدل نمو الدخل المحلي للعام 2009م، بلغ 8.7 في المئة وأن هذا أعلى من التوقعات التي كانت الصين تسعى إليها، وأن هذا دليل على استجابة الاقتصاد الصيني للمحفزات التي قدمتها السلطات الصينية، وهنا ثارت ثائرة القوى الدولية الكثيرة وأجهزة الإعلام التي عبرت عن ذلك بطرح مقولة إن الصين أصبحت تحتل المكانة الثانية في الاقتصاد العالمي وإنها سبقت بذلك اليابان وإنه من المتوقع أن تسبق الولايات المتحدة وتحتل المكانة الأولى خلال خمسة عشر عاما أي بحلول العام 2025م، أو على الأكثر العام 2027م وتصدى كثير من الخبراء في مجالات السياسة والاقتصاد بالتحليل لهذه المعلومات ودلالاتها في السياسة العالمية وأبدت محطة الإذاعة البريطانية اهتماما كبيرا لهذا الموضوع وأجرت عدة لقاءات إذاعية مع عدد من الخبراء ومعظمهم أكد على خطورة معدل النمو الصيني، وأن الصين سوف تسبق الولايات المتحدة. وعندما طرح عليّ هذا السؤال أخذت موقفا مختلفا رغم إعجابي بنمو الصين وتخصصي في القصايا الصينية منذ أكثر من أربعين عاما.
ولقد بينت وجهة نظري أن الصين لا يتوقع أن تصل إلى مستوى الدخل الأميركي قبل خمسين عاما من الآن على الأقل، بافتراض أن كافة المعطيات والمتغيرات بقيت على ما هي عليه، وإن المعروف من دراسة العلاقات الدولية، خلال القرون بل والعقود الماضية، أن المفاجآت كثيرة، ولن تبقى الأوضاع على حالها، وضربت مثالين على التغيرات المفاجئة والخطيرة التي لم يتوقعها أحد وأولها التفكك السوفياتي وانهيار الكتلة الاشتراكية والتحول للرأسمالية بعد 70 عاما تقريبا من الثورة الاشتراكية، وثانيها الحرب الكونية على الإرهاب التي قادتها الولايات المتحدة وأقنعت بها العالم ضد ما أسمته بالإرهاب الإسلامي، ويمكن أيضا أن نذكر الثورة الإسلامية الخمينية في إيران وما أحدثته من تحولات في منطقة الشرق الأوسط بل ويمكن أن نذكر مبادرة الرئيس أنور السادات بزيارة القدس، وإقامة السلام المصري الإسرائيلي الذي رغم كل المعارضات الشفوية من دول الرفض لم تفعل شيئا، بل وأعلن الرافضون والمؤيدون أن خيار السلام خيار استراتيجي، ولم يطلق أحد قذيفة على إسرائيل طوال أكثر من ثلاثين عاما سوى أعمال فدائية أو مقاومة محدودة رغم الدعاوى الإعلامية بالنصر والصمود ونحو ذلك، ولكن كل ذلك لم يمس جوهر الدولة الإسرائيلية، بل دمرت البنية التحتية للدول المجاورة وللأراضي الفلسطينية.
وعودة للصين، فإنني أعتقد أن ثمة مبالغة في طرح مقولة أن تصبح الصين القوة الأولى في العالم خلال خمسة عشر أو عشرين عاما، ومن الأدلة على ذلك:
أولا: إن الاقتصاد الصيني الآن يمثل ربع الاقتصاد الأميركي، كما أن حجم تجارة الصين رغم ضخامتها تمثل نسبة صغيرة في حجم التجارة العالمية.
ثانيا: إن الاقتصاد الغربي بمعنى اقتصاد أميركا وأوروبا واليابان، يمثل نحو ثلثي الاقتصاد العالمي أو ثلاثة أرباع الاقتصاد العالمي، وهو يعتبر وحدة إطارية متكاملة لأنه ينتمي لنفس الفلسفة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ولا يمكن أن تتغلب الصين على ذلك خلال ربع قرن ولا حتى نصف قرن وفقا للمعطيات الراهنة.
ثالثا: إن الاقتصاد الصيني يعتمد في جزء كبيرة منه على الاقتصاد الغربي، بما في ذلك الاقتصاد الأميركي، سواء في الحصول على الأسواق أو الأموال للاستثمار وتبادل السلع والخدمات.
رابعا: إن الاقتصاد الأميركي تحول إلى اقتصاد المعرفة، في حين إن الاقتصاد الصيني مازال في مرحلة اقتصاد الصناعة والثروة الصناعية، وإن ما يعرف بصناعة المعرفة في الصين ما زال في بداياته سواء في التكنولوجيا الصلبة لصناعة الحاسبات العملاقة وفوق العملاقة أو حتى في صناعة البرمجيات والتي تعتبر الهند رغم تخلفها الكبير عن الصين سابقة عليها في هذا المجال.
خامسا: إن الصين متقدمة في المدن الكبرى وفي المناطق الشرقية بينما مازال الداخل الصيني والشمال الصيني أكثر تخلفا، وإن الصين نفسها تعترف بذلك، وهذا يعني أن الصين كما هو معروف تعتمد التنمية غير المتوازنة، ولكن من الناحية الاقتصادية فإن هذه تحدث تناقضات ضخمة، ولابد أن تعود الصين بعد مرحلة إلى منهج النمو المتوازن لكي تحد من التناقضات التي ظهرت بين أقاليمها ومدنها وأفرادها وأدت لظهور طبقة جديدة من المليونيرات.
سادسا: إن الصين تعتمد في كثير من صناعاتها على الشركات متعددة الجنسيات والتي في معظمها شركات أميركية أو أوروبية أو يابانية، وما تزال الصين في مرحلة بدائية بالنسبة لهذه الشركات. والدور الخطير الذي تلعبه تلك الشركات تجلى في الأزمة المالية في آسيا وبخاصة دول الآسيان العام 1997م.
سابعا: إن الولايات المتحدة تحتل المكانة الأولى في صناعة المعرفة وفي إجمالي الإنتاج المحلي وفي حجم الصادرات وفي حجم الواردات، وفي عدد الشركات متعددة الجنسيات، وفي عدد العلماء في الكثير من فروع المعرفة، وفي العلماء الحائزين على جوائز نوبل، وفي التكنولوجيا العسكرية وتكنولوجيا علوم الفضاء، وباختصار فإن النمو الأميركي والاقتصاد الأميركي يعتمد قاعدة صلبة وقوية ولا يتوقع أن تتأثر هذه القاعدة قبل خمسين عاما على الأقل.
ثامنا: إن العقل الأميركي وفلسفة النظام الأميركي تسعى لاجتذاب العالم إليها بدءا من العلماء والباحثين والمفكرين وهي الظاهرة التي أطلق عليها نزيف العقول Brain Drain من الدول المتقدمة في أوروبا واليابان ومن الدول النامية، واجتذاب الأموال بما في ذلك الأموال الصينية المستثمرة في أذون الخزانة الأميركية والاستثمارات وكذلك المصارف الكبرى رغم الأزمة المالية التي انفجرت العام 2008.
لكل تلك الاعتبارات فإن الصين مع تقدمها لن تسبق الاقتصاد الأميركي قبل خمسين عاما بافتراض بقاء المعطيات على حالها.
ولكن التساؤل إذا افترضنا أن هذا التحليل صحيح ومنطقي لماذا الضجة الإعلامية الغربية؟ وهنا أقول إن ذلك في تقديري له دوافعه ومبرراته التي تتمثل في:
1 - تخويف العالم من التنين الصيني الصاعد والذي يسعى لافتراس العالم من مواد خام إلى مواد طاقة إلى أسواق إلى أموال واستثمارات وهو ما تقوم به مؤسسات الدعاية والإعلام في الدول الغربية مع تركيز مكثف منذ العام 2008م، على إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية والدول العربية لأنها دوائر تمثل مراكز قوة للصين في نظرتها الاستراتيجي.
2 - إيقاظ الغافلين في أميركا والدول الأوروبية أن حضارتهم في خطر نتيجة النمو الصيني بعد أن قامت بإرهابهم بالخطر الإسلامي والإرهاب الإسلامي، ولا ننسى أن كتاب صمويل هانتتجتون المشهور عن صراع الحضارات أبرز في دراسته لثماني حضارات عالمية أن هناك حضارتين هما الأخطر على الغرب، وهما: الحضارة الإسلامية، والحضارة الصينية.
3 - إن هناك الكثير من الدراسات الاستراتيجية الأميركية ترسم خططا للحيلولة دون بروز قوة عالمية تتحدى الولايات المتحدة بما في ذلك قوة أوروبا رغم التشابه والتقارب والصداقة بين أوروبا وأميركا. ومن ذلك دراسات نشرت في مجلة «الفورين أفيريز» الأميركية منذ أكثر من خمس سنوات وأجراها أساتذة من جامعات كثيرة أميركية بما في ذلك جامعة هارفارد المشهورة.
4 - إنه لو أمكن أن تلتقط الصين هذا الطعم بأنها العملاق القادم قريبا والذي سيحل محل الولايات المتحدة فإنها سوف تركن للدعة والبطء في النمو، وإن هذا هو أحد دوافع الضغط الاقتصادي الأميركي خاصة، والغربي عامة على الصين لرفع سعر عملتها، ولزيادة دخول مواطنيها، ولفتح اسواقها للسلع الأجنبية.
وفي تقديري، إن الخطوة التالية هي دفع الصين بطريق غير مباشرة لسباق تسلح مع الولايات المتحدة على غرار ما حدث مع الاتحاد السوفياتي بما يؤدي إلى التهام عائد النمو الاقتصادي وإثارة الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وبهذا سوف يتم تراجع الصين عن قوتها الراهنة، وتظل الولايات المتحدة متسيدة على عرش القوة الدولية لفترة أطول.
ولكن النظام السياسي الصيني أكثر ذكاء من النظام السوفياتي الذي التهم الطعم الذي ألقي له في النصف الثاني من القرن العشرين، وأدى به إلى الانهيار لتخلف كثير من أقاليمه اقتصاديا واجتماعيا ولسيطرة التوجه الديكتاتوري على نظامة السياسي، وانكشف كل ذلك بعد انهياره نتيجة الحركة السياسة الخاطئة التي قام بها الزعيم السوفياتي ميخائيل جورباتشوف وإطلاقه ما أسماه سياسة البروستزويكا التي أدت إلى تفككه ولعب فيها الزعيم السوفياتي يلتسين دورا بارزا في إكمال القضاء على القوة العظمى الموازية للقوة الأميركية من الناحيتين التكنولوجيا العسكرية والدور السياسي، ولكن القوة السوفياتية آنذاك لم تكن ندا حقيقيا للقوة الأميركية، لا من حيث القوة الاقتصادية أو القوة المعرفية أو الاندماج الديمغرافي، فضلا عن النموذج السياسي الديمقراطي الذي سمح باستيعاب القوى الناشئة والجديدة في المجتمع بدلا من كبت الصراعات الذي أدى لانفجارها في الاتحاد السوفياتي.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 2724 - الجمعة 19 فبراير 2010م الموافق 05 ربيع الاول 1431هـ