يحاول البعض أن يرسم خطا فاصلا بين مرحلتين في تاريخ البحرين السياسي المعاصر، الأولى تلك التي تبدأ مع إعلان الاستقلال والانعتاق من أغلال الحماية البريطانية، بكل ما حملته من ممارسات استعمارية على المستويات كافة السياسية والاقتصادية والتشريعية، والثانية تلك التي تبدأ مع تدشين الميثاق الوطني، الذي حاول بصدق أن ينتشل البلاد من براثن قانون امن الدولة، كي يلج بها مرحلة العمل الدستوري والنيابي. وسواء قبلنا بهذا الفصل، أم اعتبرناه تعسفيا، وأخذنا بمدخل غيره، فلابد من الاعتراف بأن هناك الكثير من العناصر المشتركة الثابتة في المرحلتين. ومن أهم تلك العناصر هو ثبات السلطة في يد قوة سياسية معينة وعدم تداولها، من قبل قوى مختلفة.
وإذا ما حاولنا تناول مسألة عدم تداول السلطة من مدخل جدلي ديناميكي، فسوف نجد أنه تكتنف من بيده السلطة سلوكين، قد يبدوأن في الظاهر متناقضين، لكنهما في الجوهر متكاملين. فكونه في السلطة يضع عليه، انطلاقا من دفاعه عن مصالحه المباشرة، مسئولية ضمان الاستقرار، وتوفير عناصر استتباب الأمن، وهو ما يدفعه، على المدى القصير المنظور، إلى تقليص هوامش الحريات التي يفترض أن يتمتع بها المواطن والمؤسسات ذات العلاقة بممارسة تلك الحريات، لكنه - والمقصود هنا من بيده السلطة - لا يستطيع أن يمارس ذلك التقليص بشكل مطلق، نظرا للضغوط التي يتعرض لها من الداخل أو من الخارج، وبالتالي فلا يجد أمامه من مخرج سوى توسيع تلك الهوامش، وبحذر شديد كي لا تشكل خطرا حقيقيا على قدرته على الاستمرار في الإمساك بمقاليد السلطة.
الأمر ينعكس مباشرة على سلوك المعارضة، التي عندما نقيم ممارساتها السياسية، ومرة أخرى من منطلق جدلي ديناميكي، سنكتشف، أنها بوعي أو بدون وعي، تمارس أدوارها وكأنها تناقض نفسها، لكن تلك الأدوار تتكامل، شاءت المعارضة أم أبت. فمن جهة ونظرا لكونها مجردة من حقها في ذلك التداول تجد قوى المعارضة نفسها مضطرة إلى احتلال خانة المعارضة المطلقة، والتي تصل إلى درجة تلغي من على عاتق تلك المعارضة مسئولية التخطيط أو المشاركة في رسم البرامج الوطنية، جراء كونها لا تخشى من استلامها مقاليد الحكم في مرحلة لاحقة، ومن ثم وراثة ما راكمته من مكاسب أو إخفاقات، منفردة أو بشكل مشترك مع السلطة القائمة، خلال فترة معارضتها.
في الوقت ذاته، لا تستطيع هذه المعارضة أن تتجاهل ضغوطات الشارع الذي يحثها على انتزاع بعض المكاسب التي يجاهد من يمسك بالسلطة على عدم المساومة بشأنها، ولذلك تضطر إلى اللجوء إلى بعض المرونة في سلوكها كي تستطيع امتصاص نقمة تلك الضغوطات المرسلة من الشارع.
هذه الحالة التي تحكم العلاقة بين طرفي المعادلة في العمل السياسي البحريني بنت حاجزا نفسيا سميكا عزل المعارضة عن السلطة، وأقامت سياجا من القطيعة حكمت العلاقة بينهما، ونسفت قنوات الحوار الهادئ البناء التي كان كلاهما في أمسّ الحاجة له.
ومن يتابع العلاقات التي سادت جلسات «اللقاء» بين السلطة التنفيذية، والكتل النيابية، في البرلمان على امتداد السنوات الأربع الأخيرة، بوسعه أن يكتشف بسهولة غياب ذلك الشكل من الحوار الذي نتحدث عنه، ويطمح المواطن أن يشاهده تحت قبة البرلمان.
واليوم، يبدو أن هناك مؤشرات تدل على رغبة السلطة، أو على الأقل بعض قواها الأكثر تنورا، على الاقتراب أكثر من بعض قوى المعارضة، وجس نبضها، ومعرفة مدى استعدادها للتعاون مع السلطة في الانتخابات المقبلة. لقاء ذلك، هناك ميل من قبل بعض أطراف المعارضة، لبدء حوار جاد ومثمر مع تلك الأجنحة، من أجل التوصل إلى شيء من التفاهم الذي ينسق خطواتهما على طريق انتخابات برلمان 2010.
تصطدم محاولات التقارب هذه بجدار الحاجز النفسي الذي نتحدث عنه، حيث يرى من يمسك بالسلطة أن في محاولات التقارب مع المعارضة شيء من تقديم التنازلات غير المباحة، وفي الجانب المقابل، ترى بعض أطراف المعارضة أن من ينسق مع أي من أطراف السلطة، شكل من أشكال الارتماء في أحضان تلك السلطة وتفريط في القيم المقدسة المتعارف عليها في العمل السياسي البحريني.
المستفيد الأساسي من هذه الفجوة غير القادرة على تجاوز جدار الحاجز النفسي، هي الأطراف التي تتعارض مصالحها لأي شكل من أشكال التقارب بين قطبي الخلاف، والتي لها مصلحة مباشرة في استمرار التنافر بينهما.
ولعل زمام المبادرة، هو اليوم أكثر من أي وقت مضى، بيد المعارضة الطليعية، التي عليها أن تتحلى بالثقة في النفس أولا، والشجاعة السياسية ثانيا، كي تصرح في العلن، أنها على استعداد أن تلتقي مع من يريد في السلطة أن يلتقي معها، شريطة أن لا يكون مثل هذا اللقاء على حساب المبادئ التي ضحى شعبنا من أجلها، والذي يخطئ من يتوهم أن يكون الميثاق وما جاء به بعيدا عن تلك التضحيات.
ربما تكون خطوات البداية صعبة، لكن الرواد هم الذين يرون، في مراحل مبكرة، ما يعجز المواطن العادي أن يراه، وهم في الوقت ذاته من يمتلكون شجاعة الإقدام على خطوات يتردد غيرهم حتى مجرد التفكير فيها. والشارع السياسي البحريني اليوم بحاجة إلى قادة رواد تسيرهم النظرة المستقبلية البعيدة المدى، وتحكم سلوكهم الجرأة التي يفتقدها غيرهم. هؤلاء وحدهم هم القادرون دون سواهم على مساعدة طرفي معادلة العمل السياسي على تجاوز جدار الحاجز النفسي الذي نتحدث عنه.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2723 - الخميس 18 فبراير 2010م الموافق 04 ربيع الاول 1431هـ
كيف لا ..
لم تكن لتكون هناك معارضة لو أن "المعارضة" ومن بيده السلطة يفكرون بنفس الاتجاه، ولكنك يا أستاذ فصلت الشعب عن المعارضة وكأن المعارضة كيان قائم بذاته؟
المعارضة هي الشعب ومن الشعب وإذا ما نتج عنها موالاة فمن الشعب وإذا ما نتج عنها معارضة فمن الشعب