على رغم الجهد النفسي «الاستثنائي» الذي بذله الرئيسان، الفرنسي والاميركي، لإضفاء نوع من المناخ الايجابي على اجواء قمة الدول الصناعية الثماني الكبرى، المشحونة سلفا الا ان عمق التباينات وتصميم الاطراف الاساسية على عدم تقديم أية تنازلات، حتى ولا في الشكل طغى على كل ما عداه. فمنذ الافتتاح حتى نهاية اعمال هذه التظاهرة، تعمد جاك شيراك اتخاذ مواقف تزعج ضيفه وغريمة الاميركي، سواء لناحية رؤيته لعالم متعدد الاقطاب، أم لجهة ضرورة الاستماع اكثر لاهل الجنوب. ما كان كافيا «لفرقعة» القمة بصمت. على أية حال، فالتأزمات السياسية والنقدية العالمية كانت كفيلة بحجب الاولويات الفرنسية. باختصار لم تعالج هذه القمة المسائل العاجلة التي كان من المتوقع ان تتصدى لها وتحسم عددا منها، إذا لم تكن كلها. في طليعة هذه القضايا والملفات، كيفية تفعيل النمو، ولحجم الانجرار في دوامة الانكماش الذي دخلته حتى الآن عدة دول، وتقف على عتبته دول أخرى كذلك، اقناع الاحتياطي الفيدرالي الاميركي (البنك المركزي) بمنع تدهور سعر صرف الدولار مقابل اليورو، والتوافق على الخطوط العريضة بشأن الطرق وخريطة الطريق ودعم اقتصادات افريقيا.
«لا تصدقوا كل ما يقال»، رد باختصار جاك شيراك على تساؤل وجهه صحافي فرنسي محسوب عليه، عما اذا كان العمل مازال ممكنا مع جورج بوش الابن، كما كان الحال بالامس - لكن أحد اعضاء الوفد الاميركي الذي سمع بالتواتر بهذا الترويج، انبرى لتأكيد أن الاجتماع الثنائي الذي سيعقد بين الاثنين قبل سفر بوش لشرم الشيخ لا يتعدى إطار المجاملة المتعارف عليها في مناسبات من هذا النوع. كما انها ليست كافية لطي صفحة الحرب وتداعياتها في العراق، وتجاهل «المزايدات» عليه بشأن افريقيا والدول النامية والفقراء، ناهيك عن توجيه الاشارات لمناهضي العولمة، وبالتالي وضع الامور مجددا على السكة. ولقد اضاف هذا العضو، أنه إذا كانت الأمور استقامت «كما قيل»، فإنه كان من الممكن لجورج بوش ان يؤجل سفره بضع ساعات لشرم الشيخ بدل ان يصر على موقفه ويستعجل لاظهار عدم اهتمامه الكافي بهذه القمة.
سيتنتج من وراء ذلك أن لكل طرف طريقته في التعبير عن مواقفه وخلفياته، وكذلك تحديد آفاقه ورؤاه.
فالادارة الاميركية مصممة على ما يبدو على ترك الامور معلقة مع باريس حتى اشعار آخر، وابداء رغبتها بعدم الاستعجال لحلحلة الاوضاع والعقد، لاحتمال تدوير زوايا الخلافات في المدى المنظور.
من جهته، لا يبدو أن الرئيس الفرنسي مرتبكا من هكذا توجه وتصعيد اميركي مدروس بحيث قصد ان يكون إظهار تناقضاته مع اميركا بمثابة شواهد على صدق مواقفه التي ترضي باقي العالم من فقراء ومناهضي عولمة ومنتقدي هيمنة القطب الحادي على شئون الكرة الارضية. فقد بدا ذلك واضحا للغاية سواء من خلال عقد اجتماع مطول جدا مع الرئيس الصيني، أو المعانقات الاخوية الشديدة الحرارة مع رؤساء الدول التي وصفها شيراك «بالناشئة» وتناغمه إلى اقصى الحدود وصولا لحاجز الاستفزاز مع لويز لولادي سيلفا، الذي لا يحمله جورج بوش في قلبه على غرار الحقد الذي يكنه لشافيز.
إلى كل هذه المبادرات التي زادت الامور تعقيدا مع الوفد الاميركي. ولم يتوقف شيراك عند هذا الحد، بل حافظ على أقنيته على الاقل اعلانيا، مع مناهضي العولمة، مشيرا إلى ضرورة احترام الرأي الآخر، الذي هو اساس القيم الفرنسية. ما فسرته غالبية الاوساط السياسية والاعلامية الموجودة في المنتجع الفرنسي على انه قرار ثاقب لا رجعة فيه بعدم الرضوخ لشروط الولايات المتحدة السياسية منها والمالية، النقدية تحديدا. على اية حال، فقد كان شيراك اكد منذ اليوم الاول أن قمة الدول الثماني الكبرى ليست هيئة تقريرية وملزمة بالنسبة إلى العالم، لكنها إطار ضروري ومهم لحفظ التوازنات الاقتصادية والمالية وتدارك الانهيارات.
لخص المراقبون مواقف شيراك في انها تخطيط مسبق من تسخيف هذه القمة - نظرا إلى دعوته زعماء آخرين، من غير اعضاء النادي المصنف للأغنياء - الذي اراد اعطاء اشارة لانهائها على طريقته الاستقراطية، بان لفت النظر إلى ناحية كون العام 2004 سيشهد تقاربا كبيرا بينه وبين رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير، منهيا بذلك قطيعة فرضتها ظروف معينة، مشيرا إلى تطابق مواقفهما حيال افريقيا ومشكلاتها وضرورة مساعدتها. باحتصار يمكن القول إن شيراك نجح على رغم تعالي جورج بوش، في حشد حلفاء جدد. وقد تمثل ذلك جليا بالاعلان عن أن فرنسا، والصين تخوضان معركة واحدة، مبديتان تمسكهما بنظام متعدد الاقطاب، متوازن، له مؤسسات تابعة للجميع، بهدف الحفاظ على ضرورة الحوار بين الثقافات. ما كان كافيا برأي هؤلاء المراقبين إلى أن يعني ان باريس قد بدأت في محاولة تركيب معارضة دولية فاعلة لسياسات واشنطن في كل المحافل الدولية.
ويتوقع الخبراء بنهاية هذه القمة أن تبقى المناخات الاقتصادية والعالمية الضاغطة على حالها حتى لو خفض بعد غد المصرف الاوروبي المركزي معدلات فوائد على اليورو، وحتى لو اظهر الاحتياطي الفيدرالي الاميركي تجاوبا، ولو جزئيا، برفع سعر صرف الدولار، والوعد بعدم تركه ينهار بعد الآن لترجع قيمته اوائل الشهر المقبل، كما سربت بعض الاوساط الاميركية المقربة من وزير المالية، 1,30 مقابل اليورو الواحد. فالقرار بنهاية المطاف سياسي يخضع لظروف ومعطيات دولية وحسابات خاصة. فبقاء الدولار في حدود سعر صرفه الحالي هو بحد ذاته، بحسب رأي رئيس إحدى المجموعات العملاقة الاميركية الذي حضر إيفيان ، «بادرة حسن نية اميركية» على حد قوله، مفسرا لـ «الوسط» بأن ما صرح به الرئيس بوش للصحافة قبل ساعات من انه سيبذل جهدا لاقناع الخبراء الماليين والمسئولين عن السياسة النقدية في إدارته لتعزيز وضع الدولار خدمة لنمو الاقتصاد العالمي، وانقاد اقتصادات دول حليفة وصديقة، من مطبة الانزلاق في دائرة الانكماش.
قمة إيفيان كانت محطة لسبر الاغوار، وبحسب النبض واستشفاف النوايا على جميع الصعد لا اكثر. تظاهرة من جملة التظاهرات التي شهدها العالم في هذه المرحلة بالذات من سان بطرسبورغ إلى بولندا، ومن إيفيان إلى شرم الشيخ والعقبة، والبقية تأتي. هذا هو رأي غالبية المسئولين الذين شاركوا في هذه القمة سواء كانوا قد اعطوا رأيهم وتركوا بصماتهم مثل شيراك وبوش، أو الذين كانوا شهودا عليها وعلى عدم نجاحها
العدد 272 - الأربعاء 04 يونيو 2003م الموافق 03 ربيع الثاني 1424هـ