عودة الضغوط الأميركية على السلطة الفلسطينية لإجبارها على القبول بالشروط الإسرائيلية لاستئناف المفاوضات، تؤشر إلى ضعف إدارة باراك أوباما وعدم قدرتها على بلورة آليات سياسية موازية تفتح باب المنطقة على الاستقرار والسلام. فالاتصالات التي أجرتها وفود الولايات المتحدة في عواصم «الشرق الأوسط» لم تسفر سوى مجموعة أصفار لا قيمة حسابية لها في المعادلة.
الكلام الأميركي عن مفاوضات غير مباشرة بذريعة أن واشنطن لا تمتلك خيارات أخرى سوى القبول بالشروط الإسرائيلية (رفض وقف الاستيطان في القدس والضفة الغربية ومنع وجود مرجعية دولية تشرف على إدارة مبرمجة لخطط الانسحاب كما نصت عليها القرارات الصادرة عن مجلس الأمن) يعني أن لا فائدة منه.
المفاوضات غير المباشرة من دون جدول زمني يعني تحويل مبدأ السلام إلى سلعة قابلة للتدوال في سوق مفتوحة على مختلف الاحتمالات. ومنطق التفاوض هذا لا قيمة معيارية له سوى التفاوض وثم التفاوض لتقطيع الوقت وكسب المزيد من الأيام والسنوات لاستئناف بناء الوحدات السكنية وتعقيد إمكانات الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة في العام 1967.
تحويل مبدأ السلام إلى مسألة مفاوضات من أجل المفاوضات لا وظيفة عملية له سوى تسهيل مهمة توسيع المستوطنات وترسيخ الاحتلال وتعطيل احتمالات التسوية في المستقبل. فالنمو التضخمي لعدد المستوطنين (120 مستوطنة حتى الآن) المعطوف على هدم منازل القرى والأحياء الفلسطينية وشق الطرقات الملتوية وبناء جدار الفصل العنصري في داخل الأراضي المحتلة كلها دلائل ميدانية تؤكد أن خطة حكومة تل أبيب تقضي بفرض الأمر الواقع وتحويله إلى قاعدة غير قابلة للتفاوض في الأمد البعيد.
الخطة الإسرائيلية واضحة الأهداف ميدانيا حتى لو تمنعت حكومة نتنياهو – ليبرمان الإشارة إليها نظريا. فالخطة ترفض أصلا مبدأ السلام والتسوية على قاعدة القرارات الدولية الصادرة بهذا الشأن، وتريد تدوير النصوص والفقرات وإعادة تكييفها لتصبح متجانسة مع الأمر الواقع (الاحتلال والمستوطنات) وتعطيل إمكانات قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة.
قبول إدارة واشنطن بالشروط الإسرائيلية وتعاملها مع الطرف الفلسطيني بوصفه الفريق الذي يمانع ويؤخر عودة المفاوضات؛ لأنه يطالب بمرجعية إطارية دولية ووقف دائم للاستيطان، تكشف فعلا عن ضعف أميركي في تأسيس آليات قادرة على كسر القوالب النمطية في رؤية التسوية العادلة ومسار السلام الشامل.
ما معنى المفاوضات إذا كانت لمجرد المفاوضات. «إسرائيل» تتمسك بهذا الشكل لأنه يعفيها من الالتزامات الدولية وتلك الاتفاقات التي وقعتها بشأن الانسحاب من الأراضي المحتلة ويعطيها فرصة زمنية مفتوحة لمواصلة تغيير المعالم وتوسيع الطرقات الالتفافية وعزل المناطق الفلسطينية بجدار فاصل داخل أراضي الضفة الغربية. إدارة أوباما تريد المفاوضات أيضا لأنها تتطلع أن تقوم بدورٍ ما حتى لو كانت تدرك سلفا أن الآفاق مقفلة ولن تنتهي إلا بفشل. فالمفاوضات على غرار مؤتمر «انا بوليس» الذي عقد في أواخر عهد جورج بوش هي مجرد مناسبة لأخذ صور تذكارية تستخدم في الدعايات الانتخابية والقول لدافع الضرائب الأميركي إن إدارته تتحرك وتبذل الجهود وتقوم بالاتصالات اللازمة بهذا الشأن.
هناك مصلحة أميركية بعودة المفاوضات ولو بصورة شكلية حتى لا تظهر أمام الرأي العام في موقع الطرف الخائب الذي لا يستطيع تحويل وعوده إلى وقائع فعلية. وهناك مصلحة إسرائيلية في التهرب من التسوية من خلال فتح قناة التفاوض من أجل التفاوض ومن دون التزامات مسبقة تشرف على إدارتها مرجعية دولية.
السؤال: أين هي المصلحة الفلسطينية؟ وما معنى أن تقبل السلطة الفلسطينية بالعودة إلى مفاوضات مفتوحة على الزمن وغير محكومة بسقف دولي ونصوص متوافق على شرعيتها؟ هناك لا مصلحة سوى تقديم خدمة مجانية لا مردود لها ولا يتوقع أن تنتج حتى الحد الأدنى من المطالب والحقوق الفلسطينية في اعتبار أن إدارة واشنطن غير قادرة على أخذ مجرد وعد من تل أبيب وحكومة نتنياهو – ليبرمان ليست مستعدة وغير جاهزة حتى على إعطاء مجرد إشارة تؤكد حرصها على التسوية والانسحاب.
إذا كانت هذه هي النتيجة المتوقعة من مشروع المفاوضات من أجل المفاوضات فإن المصلحة الفلسطينية تقتضي برفضها وعدم تقبلها والإصرار على التمسك بضرورة وجود مرجعية إطارية دولية وإيقاف الاستيطان في مختلف جوانبه وكل أمكنته. فهذه المطالب هي حقوق وليست شروطا كما تدعي حكومة تل أبيب.
لا خيار فلسطينيا سوى رفض الشروط الإسرائيلية وتجاوب إدارة واشنطن مع تلك الشروط. فالرفض في النهاية يضمن الوحدة الفلسطينية ويؤسس قواعد عمل تعزز نمو المقاومة المدنية للجدار والمستوطنات والبضائع حتى لو أعطى ذريعة للاحتلال بالتملص من التزاماته والتهرب من التسوية والانسحاب.
بينما القبول يعني أن أوباما أخذ صورة تذكارية مجانية، ونتنياهو أخذ فرصة لمواصلة توسيع المستوطنات ونهب الأراضي والمياه وفرض الأمر الواقع تحت خيمة المفاوضات في وقت تكون السلطة دخلت في تجاذبات أهلية وانقسامات سياسية تعطل الوحدة الوطنية والمقاومة المدنية وتنهي حلم قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2719 - الإثنين 15 فبراير 2010م الموافق 01 ربيع الاول 1431هـ