العدد 271 - الثلثاء 03 يونيو 2003م الموافق 02 ربيع الثاني 1424هـ

في ندوة «التمييز»... الساكت عن الحق كما الساكت عن الباطل

غسان الشهابي comments [at] alwasatnews.com

لا يملك المتتبع لما طرح في ندوة «التمييز في التعيينات بين النص والتطبيق» التي انعقدت في نادي العروبة، إلا أن يقف احتراما للكثير مما طرح في أوراق تلك الليلة، وللنوايا المعلنة بأن فتح ملف التمييز هذا أمر لابد منه حتى لا يبقى الجرح مخبوءا وبعيدا عن التطهير.

كل ما قيل في الأوراق، والأرقام التي قد يحدس بها البعض قبل تلك الليلة، أي قبل أن تعرض بشكل يزعم العلمية، أسباب تدعو إلى أهمية معالجة الخلل الذي وقع على مدى سنين مضت، لا كما حاول البعض أن يطرحه، وهو اعتلاء طائفة على طائفة، ولكن معالجة أصل المسألة، وهو لماذا يسعى المجتمع إلى التمييز، ومحاولة احتكار أوراق اللعبة بين يديه؟

لا تحتاج مراقبة الوضع العام في التوظيف في البحرين على مدى السنوات العشرين الماضية ـ على الأقل ـ إلى الكثير من الذكاء والجهد التحليلي لكي يتوصل إلى نتيجة مفادها أن هناك نوعين/مستويين من التمييز في التوظيف، أو التمكين من التوظيف.

المستوى الأول وهو القائم على استشعار شرائح متعددة ومتقاطعة من المجتمع بمركز القوى الذي يحصل عليه فرد ما من أفرادها، وبالتالي، فإنه عندما يصبح فرد ما من المجتمع في مركز «مسئول التوظيف» في أية إدارة رسمية، يلجأ إليه عادة أهله، أبناء منطقته، أبناء طائفته. فهناك ضغط مجتمعي يمارس على المسئول حتى يقبل توظيف من هم ـ ربما ـ أقل كفاءة ومقدرة، أو ربما يتساوون في الكفاءة والمقدرة مع غيرهم من أبناء الطائفة أو المنطقة الأخرى... هذا على افتراض أن هذا المسئول ليست لديه «أجندة» خاصة في تكريس لون معين على بعض الدوائر.

هذا التشبيع «شبه» العفوي لوظائف كتابية اعتيادية في بعض الدوائر، أمر يمكن فهمه ولا يمكن قبوله مع الأخذ بحسن النوايا في هذا الصدد، كما لا يمكن ترك حبله بالغارب، فإذا كان أبسط تفسير لهذا النوع من التوظيف بأنه «سلك البلد»، وأن الإنسان لا يستطيع رد أهله إن تدخلوا كـ «واسطة خير» لتوظيف فلان وفلان، وإلا أصبح ناكرا للجميل، فإن ما لا يمكن قبوله أو التغاضي عنه، هو التشبيع المبرمج لعناصر محددة، من طائفة محددة، بل ومن اتجاه معين من هذه الطائفة أو تلك، والأمر نفسه ينطبق على التيارات الفكرية، التي تتنادى إلى وظائف بعينها حتى تسيطر على أحد المنافذ العملية، فهذا الأمر ليس عفويا، ويكشف عن سوء نية واختلال في مفاهيم المواطنة.

صحيح أنه في الفترة الأخيرة أصبح مصطلح «الطائفية» يعني أن تمييزا «سنيا» يمارس ضد «الشيعة»، وهذا ليس صحيحا على إطلاقه، وإنما تكرس بحسب الأصوات الأعلى دويا، والأكثر جرأة على المجاهرة، والأكثر فاعلية على الساحة أيضا، إلا أن الرأي الوارد هنا يقول إن الأمر كتبادل إطلاق النار، لا يمكن تحديد من البادئ أولا، ولا حتى لماذا، فأفراد من الطائفتين مارسوا لعبة الاستقطابات المهنية، وأفراد من الطائفتين خلقوا تكتلات قبيحة حتى ليشار إلى أن هذه الوزارة لـ «الشيعة» وتلك الوزارة لـ «السنة»، ومن المؤسف ان لم تتوافر وزارة للبحرين/ الوطن.

من الذي بدأ؟ ومن الذي أسرف في الإيغال في هذا المستنقع؟ لا أحد يستطيع أن يعين الأمر على وجه الدقة، كما لا أحد يمكن أن يبدو مقنعا إن ادعى أنه «متجرد» تماما لو أعطي أمر التعيينات والترقيات، فكل الحوادث البسيطة والبليغة تشير إلى أننا نمارس هذا التمييز، ولو بدرجاته الدنيا.

إلا أن مسألة (التوظيف يجر التوظيف)، إذا ما تم إسنادها إلى أفراد ذوي جلود طائفية سميكة تعميهم عن قليل من الحياء أمام ضمائرهم وأمام الرأي العام، أو ذوي رقة تمنعهم من قول «لا» للضغوطات المجتمعية، فإن هذا الأمر ينتفي تماما في مسألة «تعيين» ذوي المناصب الرسمية، ابتداء من المدير وما فوق، فهذا الأمر في يد السلطة التنفيذية أولا وأخيرا، وأنه لا يمكن القول بأن التمايز العددي في الوظائف العليا ـ التي يهجس بها الناس، وأكدتها الأرقام المعروضة في الندوة ـ قد أتت صدفة أو سهوا، فإذا كان بعض المسئولين عن التوظيف قليلي الحساسية تجاه التوازنات التي يجب أن يسير عليها المجتمع، فإن أمر التعيينات العليا كان يجب ألا يخرج ـ منذ البداية ـ عن سيطرة الحكومة إن هي أرادت ألا يبدو في هذا الشكل المؤسف في يوم من الأيام، وكأنها تريد أن تصفع الناس وتمنعهم أيضا من البكاء، وهذا هو المستوى الثاني من التمييز في الوظائف.

بالمنطق السوي، والنوايا الوطنية السليمة، لا يمكن إلا أن يطرح التساؤل المشكل: في مصلحة من يجري توظيف التمييز بين الطوائف والأعراق معا؟ ألم يخشَ على هذا البلد من الانزلاق في سراديب الكراهية المتبادلة، والتوجس الدائم؟ هل وضع كهذا بمقدوره أن يعزز الوحدة الوطنية، ويدعو الكتاب والمفكرين إلى الدفاع عنه؟ هل من الإقناع أن يقال: لو أن الوضع كان معكوسا لرأينا أنفسنا في المرآة، ورأينا الذين يشتكون اليوم هم الذي يشتكى منهم، والأمثلة الواقعية في دول مجاورة تنبئ عن وضع قميئ كهذا؟

قد يجد المرء نفسه متفقا مع مقولة أحد الرسميين في هذه المسألة، أنه ليس من مصلحة البحرين أن يسن فيها قانون ـ كما في لبنان مثلا ـ يحدد من أي دين، وأي مذهب تتشكل مناصب الدولة، وتبقى المناصب في انتظار ممثل الدين والطائفة والملة، حتى لو كان هناك من هو أقدر منه وأكثر كفاءة، ولكن هذا الرأي يتهالك عندما يكون هذا القانون «عرفا» يمارس، وربما يقول البعض إنه لو كان قانونا مكتوبا لسعينا إلى تغيير القانون، ولكن كيف يتم السعي إلى تغيير القانون المكتوب بأرقى الصياغات الإنسانية، ولكن تكذبه الممارسة العملية؟

كان على الحكومة ـ منذ البداية ـ أن «تلعبها صح»، فوجود الإنسان في الدائرة الرسمية يجعله رسميا، وخصوصا مع الأعراف المستقرة في البحرين بشأن وظيفة ومهمات وصلاحيات الشخصيات الرسمية، وبالتالي، تجتهد ـ من غير قانون مكتوب ـ أن تخلق التوازن الفاعل، الذي يؤمن للمجتمع الإحساس بالعدالة، ويخدم مصالح الحكومة وتوجهاتها، ليس بفعل «الثقة»، ولكن بفعل «الكفاءة المطوعة» لخدمة الأهداف والتوجهات التي لا شك أنها تصب في الصالح العام.

وما تجربة سلطنة عمان عنا ببعيدة؛ فبعد أن اقتتل الرجال في «ظفار» وأماكن أخرى، وسالت دماء المئات من الطرفين، وقيل من الجانبين ما قيل، دعا السلطان قابوس بن سعيد أساطين المعارضة إلى التقدم بخلق مجتمع جديد، ووزرهم وأعطاهم الصلاحيات التي تعمل على رفعة البلاد وتقدمها، وتسخير حب الوطن والناس ـ وهذا ما كان ينادي به المعارضون ـ لصالح الوطن والناس، فكسب السلطان بذلك عقليات متعلمة ومتقدمة، وأنهى جيوب المعارضة المسلحة.

إلا أن ندوتنا هذه، وكذلك أحاديث الندوات والمنتديات والمجالس، لا تطرح إلا التمييز الذي يعمل في صالح «السنة» ضد «الشيعة»، ومن هنا حاول المتحدثون أن «يعتذروا» في بداية مداخلاتهم بأنهم لا يفجرون الوضع، وإنما يحاولون إطفاء الفتيل قبل أن ينفجر، كما محاولات وصف من يقف ضد هذا النوع من الطرح على أنه مستفيد من الوضع الراهن، ويحاول الوقوف في وجه «الحق الأبلج» الذي تبديه الأرقام الناصعة.

أحد الأصدقاء كان يقول ـ ويكاد يبكي ـ إنه دخل إلى إدارة في إحدى الوزارات فرأى أن 90 في المئة (على حد قوله) من موظفيها من «السنة»، وكان الموظفون «الشيعة» في هذه الدائرة قبل سنوات قليلة فقط يشكلون 90 في المئة منها، ويتساءل بحرقة: «أليس هذا تمييزا طائفيا واضحا؟».

إن أبسط جواب يقال هو: «نعم... ولكن أين كنت عندما كانت النتيجة معاكسة؟ لماذا لم تبك حينها ما دام الحق واحد لا يتجزأ؟ لماذا لم تخف أن يأتي الوقت الذي تنتهي فيه الأوقات الطيبة، فتعمل على الدعوة إلى نبذ التمييز، مع أنه يصب في صالحك اليوم، إذ لن تأمن غدا أن يظهر لك الزمان عكس ما أبطن؟»... لماذا البكاء اليوم على جامعة البحرين ـ وأشهد الله أنها تعاني التمييز الوظيفي ـ ولم ترتفع الأصوات ذاتها بالأمس عندما كانت الطائفية (بصفتها العمومية)، والفئوية والعائلية والعرقية أيضا تتحكم في كلية البحرين الجامعية وكلية الخليج للتكنولوجيا؟ وأين المتباكون اليوم على البعثات التعليمية في الأمس؟ ولماذا التباكي على الوزارات «الطائفية» اليوم عندما تغيرت بوصلتها الوظيفية ولم يجر كل هذا بالأمس... المسألة لا ترتبط بالمشروع الإصلاحي ومساحة الحرية، ولكنها ترتبط بمفاهيم المجتمع الخاصة عن العدالة والتفرقة والتمييز، وربما لا يسأل الإنسان نفسه عن الألم الذي يعتصر أخاه إن كان هو في وضع مستريح، ولكن «إن مسه الشر جزوعا»، فقد تحولت الوزارات ـ في حدها الأدنى وهو الأكثر تأثيرا لأنه يمس شريحة أوسع من الناس ـ من طائفة إلى طائفة، ولم يكن في وضع مثالي يوما ما حتى نستشعر اليوم كل هذه الميلة العظيمة في الميزان.

ما تقدم في الفقرات الأخيرة ليس تبريرا للتمييز، ولا إسباغا للمشروعية عليه، ولكنها دعوة لكي نقف أمام الخطأ لأنه خطأ، ونستشعر الظلم إن وقع معنا أو ضدنا لأن «الظلم ظلمات»، وأن السكوت عن التمييز في الماضي أورث تمييزا جديدا في الحاضر، والسكوت عنه اليوم سيقود إلى كارثة في المستقبل، فكما أن «الساكت عن الحق شيطان أخرس» كذلك الساكت عن الباطل

إقرأ أيضا لـ "غسان الشهابي"

العدد 271 - الثلثاء 03 يونيو 2003م الموافق 02 ربيع الثاني 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً